fbpx

شبام: مدينة الطين المتقدمة بيئياً

شبام حضرموت - تصوير: George Steinmetz

حلم أخضر (خاص) هيئة التحرير

اشتهر قدامى اليمنيون بكونهم معماريون مّهَرة، شيدوا المدن التي خلدتها الحضارات، وابتكروا تقنيات هندسية ارتبطت بهم عبر العصور.

فهم أول من شيد مبانِ بطوابق عمودية منذ فجر التاريخ، كان أولها قصر غمدان في صنعاء والذي ذكرته النقوش وذكره المورخ الهمداني بأنه كان مكوناً من 20 طابقاً ترنو نحو السماء.

وفي ازمنة لاحقة، شيد اليمنيين أول ناطحات السحاب التي عرفها العالم في مدينة شبام بحضرموت، وكانوا أول من ابتكر وشيد السدود، وتشير المراجع التاريخية أن سد مارب العظيم هو أقدم سد عرفته الأرض.

لكن اليمنيين اليوم، فقدوا الاهتمام بذلك كله، ولم يتمكنوا من تطوير استدامة تلك الهندسة التي ميزت مبانيهم القديمة عن غيرهم.

فبمجرد النظر لمدن الطين في شبام حضرموت، وصنعاء القديمة، ومدينة زبيد التاريخية، تتضح فكرة علمية وهندسية كبيرة.

اليوم، ومع ازدياد مشاكل الطقس وتغير المناخ، وارتفاع درجة الحرارة، وزيادة التلوث، تبدو طريقة التشييد في اليمن القديم، متجاوزة بمراحل اساليب البناء الحديث. كونها متقدمة بيئياً وهندسياً.

من الناحية المعمارية، تبدو العمارة اليمنية القديمة، أكثر جمالاً من مباني المدن الحديثة في عموم البلاد. ولعل هذه الأخيرة تبدو مدن مشوهة بالاسمنت وبلا هوية أو مظاهر متجانسة. وخالية من الخصائص البيئية.

يتعقب هذا التقرير من «حلم أخضر»، خصائص مدينة شبام حضرموت، كنموذج متقدم لمدينة صديقة للبيئة وفريدة للغاية.

مدينة شبام – الصورة مرخصة من: وزارة السياحة

شبام: 500 ناطحة سحاب

تعرف شبام باعتبارها مدينة أثرية مسورة، في محافظة حضرموت شرق اليمن. تبعد حوالي 990 كيلومتر عن العاصمة صنعاء.

تصُنف مباني مدينة شبام، بأنها أقدم ناطحات السحاب في العالم. تحتوي المدينة على 500 ناطحة سحاب، تتراوح ارتفاعاتها بين 23 – 24 متراً. ومما يميز هذه البنايات أنه تم تشييدها من مادة الطين وجذوع النخيل والماء.

يعود تاريخ هذه المدينة إلى أكثر من 600 سنة، وتعد إلى جانب مدينة صنعاء القديمة، من أقدم نماذج العمارة البيئية في العالم، من حيث الأسس البيئية والتنظيم المرتكز على البناء العمودي.

شبام: مانهاتن الصحراء

في الثلاثينيات من القرن الماضي، أطلقت عليها الرحالة والمستشرقة البريطانية، فريا مادلين ستارك، اسم: “مانهاتن الصحراء”، نظراً لمبانيها البرجية العالية الارتفاع، والمنبثقة من الصخور والمتراصة ببعضها البعض على نحو فريد وسط الصحراء.

في العام 1982، أدرجتها منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلم اليونسكو على قائمة التراث العالمي، وبحسب اليونسكو: ” تشكل هذه المدينة المسوّرة أحد أقدم النماذج وأفضلها للتنظيم المدني الدقيق المرتكز على مبدأ البناء المرتفع”.

شبام مدينة متقدمة بيئياً- الصورة من: وزارة السياحة

وطبقاً لـ إحدى المصادر، تتميّز مباني شبام بطوابقها الثمانية، وبأبوابها ونوافذها ذات الطّراز الهندسي التقليدي، ويشير المؤرخون إلى أن مدينة شبام القديمة كانت أكبر حجماً من المدينة الحالية، ويرجحون أنّها كانت تمتد حتى المرتفعات الجبلية المشرفة عليها.

إلا أنّها دمرت على مرحلتين: الأولى: كانت في القرن الـ12 للميلاد. والمرحلة الثانية: دمرت في القرن الـ15 للميلاد، عندما تعرضت شبام حضرموت لسيول غزيرة، أدت لحدوث فيضانات عالية اجتاحت المدينة، وتسببت في تدمير أجزاء كبيرة من ناطحات السحاب.

المزايا البيئية لبيوت شبام

تكمن الفكرة الفريدة لبيوت الطين في شبام، في أنها تستجيب لمتغيرات المكان والزمان، ولعل المدهش أنها ومن منظور علم الهندسة البيئية، تعد مبنية على قاعدة علمية من أسس علم “التصميم البيئي”.

وهو ما تؤكده دراسة علمية حديثة لأستاذة العمارة، الدكتورة فاطمة حسين، من جامعة بني سويف في مصر. إذ تفيد بإن البناء بمادة الطين له مميزات وخصائص بيئية تحقق مفهوم الاستدامة البيئية.

بنيت مدينة شبام، على أنقاض مدينة شبام القديمة، وهي ترتفع بحوالي 700 متر عن مستوى سطح البحر. وتمتاز بالانخفاض بنسبة الرطوبة، وارتفاع درجة الحرارة بشكل ملحوظ، في ساعات الاشراق.

يحيط المدينة سور من الطوب الطيني بارتفاع 5-9 متر، وله في الجهة الجنوبية مدخل وحيد للمدينة. وقد شكل ارتفاع المدينة عن الاراضي المحيطة بها، الحد من الانتشار والتوسع الافقي لها. وهي محاطة من 3 اتجاهات شمال وشرق وغرب، بأشجار النخيل وبساتين، الأمر الذي يعمل على التلطيف الجزئي لطقس المدينة.

مدينة شبام من الداخل – الصورة: وزارة السياحة

وفقاً لـ دراسة الدكتورة فاطمة حسين، المنشورة في مجلة “العمارة والفنون” في العام 2013، يعد الطين مادة طبيعية صديقة للبيئة، وتكمن ميزة البناء بالطين في كونه يساعد على الحد من استنزاف الموارد الطبيعية. والحد من انبعاثات الكربون، وذلك لاستخدامه الحد الأدنى من المواد المصنعة.

بحسب الدراسة، توفر مباني الطين في مدينة شبام، تقنية عزل هندسي بشكل كامل على نحو فريد، فهي تعزل الحرارة أو البرودة مما يؤدي الى التقليل من إهدار الطاقة. يتجسد ذلك التقدم الهندسي خاصة في بيئة المناطق الحارة والصحراوية.

فمادة الطين لا تنفذ خلالها الحرارة الا بعد وقت يصل الى 15 ساعة تقريباً، في ظل سماكة 40 سم، بينما هذا الأمر لا يتعدى سوى 5 ساعات فقط في جدار الاسمنت الذي يكون بسماكة 20 سم5.

وما هو مهم أيضاً، أن مادة الطين تعتبر عازلة جداً للصوت وللضجيج، أو ما يسمى بيئياً بـ “التلوث الصوتي”، فمباني الطين هذه تؤدي هذه الوظيفة من خلال تكوينها وسماكة الجدران والمسامات المنتشرة في تكوين مواد البناء.

وبحسب الدراسة ذاتها، فإن من أبرز مزايا بيوت الطين هي الحد من التلوث وسهولة التدوير، فمادة الطين تعد مادة طبيعية متوازنة بيئياً، وهي توفر مناخاً صحياً للغاية داخل البيت، لدرجة يشعر بها السكان بالراحة التامة، والهدوء حتى أن نفحة الهواء والاوكسجين يكون صحياً للغاية عكس بيوت الاسمنت المطلية بالمعاجين الكيميائية.


كما أن عملية البناء بمادة الطين والقش، يحد من التلوث ومن إنتاج النفايات عند البناء، ويحد من استنزاف البيئة في جميع مراحل التصنيع، أو حتى في حال هدم المنزل فالعناصر الطينية تمتاز بسهولة تدويرها، ولا تضر بالبيئة الطبيعية المحيطة بالبيت كونها منتجة منها.

الخصائص الفيزوحرارية لمباني شبام

تشير دراسة علمية حديثة (شيبان، والسقاف 2017) إلى الخصائص الفيزوحرارية لمواد البناء الطينية المستخدمة في مباني مدينة شبام التاريخية، وأثرها على توفير مرافق الراحة في تلك المباني.

تؤكد الدراسة أهمية استخدام مادة الطين ذات الصفات الفيزوحرارية الممتازة في بناء المباني، كونها تتناسب مع مناخ منطقة شبام.

إذ تتمتع شبام بمناخ استوائي حار جاف، وطقس شديد التقلب في الصباح والمساء، وتوصي الدراسة البحثية بعدم استخدام المواد الحديثة في البناء كالخرسانة، لما لها من لها من سلبيات مؤثرة على توفير الراحة.

شبام مدينة الطين المتقدمة بيئياً/ الصورة: ترخيص المشاع

من المعروف ان توفير مرافق الراحة للسكان يعد شرطاً ضرورياً ومهماً في المباني السكنية.

وفي المناطق الحارة يمكن الحصول على الراحة من خلال استخدام اجهزة التكييف مما يتطلب وجود طاقة لا يستهان بها لتشغيل التكييف.

وتشير دراسة (شيبان، والسقاف 2017) بأنه في حالة المباني الطينية في شبام، فإن مواصفات مادة الطين تساعد على صياغة مرافق الراحة من غير استخدام انظمة التكييف.

لما لهذه المادة من صفات حرارية خاصة تجعلنا نعتمد على مرافق الراحة الطبيعي، ولا نستخدم الطاقة لغرض التكييف إلا في الحالات الضرورية عند اشتداد الحر في حال تطلب الأمر لذلك.

الهندسة البيئية بين شبام ودبي

بمجرد المقارنة مثلاً بين مدينتان لهما بيئة صحراوية متشابهة: مدينة شبام حضرموت، ومدينة دبي في الامارات العربية المتحدة كمثال، سنجد أنه بمقاييس العصر الحديث للهندسة المعمارية والبيئية (وبعيداً عن العمر التاريخي)، ستكون المقارنة لصالح مدينة شبام دون تجاوز.

إذ تتفوق مدينة شبام عن المدن العصرية كدبي (أو أية مدينة حديثة مشيدة بالبيئة الصحراوية)، في كون مبانيها صُممت ببراعة وفق “علم وخبرة” لتلائم المناخ والبيئة الصحراوية التي لا تؤثر عليها، ولا على صحة سكانها.

في حين ان مدينة دبي شيدت مئات الابراج من ناطحات السحاب الزجاجية والاسمنتية، وفق الاعتماد على الطاقة الأحفورية المشغلة لهذه الابراج، والتي تعد مكلفة اقتصادياً وملوثة للبيئة.

فمواد الحديد والالمنيوم والزجاج والاسمنت الذي شيدت بها مباني وأبراج دبي بمعايير عالمية للتكييف والتدفئة، ليست من مواد البيئة الطبيعية المتجانسة مع بيئة الصحراء.

وهي مباني تعتمد اجمالا على الطاقة الكهربائية كي يصبح السكن فيه طبيعي.


ومع افتراض غياب الطاقة الكهربائية لمدة يوم واحد ستصبح كل هذه المباني في إمارة دبي عبارة عن أفران حارة لا يستطيع سكانها التنفس لحد الاختناق.

كون درجة حرارة الصحراء عالية جداً، ومع احتباس حرارة الطقس يصبح دخول الهواء وضوء الشمس إلى الابراج الزجاجية مصدر عبء اضافي يزيد من حرارة المباني ويخنق السكان.

في حين ان بيوت شبام الطينية مشيدة من مواد طبيعية 100%، من قواعدها وجدرانها وسقوفها الداخلية وحتى نوافذها من الاخشاب الطبيعية، والتهوية فيها تهوية طبيعية ومريحة للغاية.

يكمن عامل التفوق البيئي في أن عوامل العزل الهندسي لمباني شبام حضرموت مكونة من مواد طبيعية من ذات البيئة.

وهي عبارة عن الطين والقش واخشاب ومادة النورة والرماد الطبيعي، ولعل جدار الطين المخلوط بالحشائش كالقش (التبن) يمكن أن يصد الموجات الكهرومغناطيسية ويمنعها من الدخول لداخل المباني.

في حين ان عوامل العزل المستخدمة في المباني الحديثة في مدينة دبي او غيرها، عبارة من مواد صناعية ومواد كيماوية غير صحية.

نوافذ بيوت شبام – الصورة: وزارة السياحة

كيف تم بناء بيوت شبام؟

كشفت الدراسات الحديثة عن بعض أسرار قدرة المنازل الشبامية على البقاء سليمة لمئات السنين. حيث تم حفر أساسات عريضة لها يصل عمقها إلى متر أو مترين تحت الارض.

ليتم بسط طبقة من روث الماشية في قاع الحفر، وترش فوقها طبقة من الملح. ويلي ذلك رص أعواد من الشجر توضع من فوقها طبقة من الرماد. ولتسوية الأساس توضع قطع غير مصقولة من الحجر.

وبعدها تبدأ عملية البناء بالحجر أو الطوب لرفع الأساس فوق سطح الأرض، بارتفاع 1 متر بغرض تدعيمه وحماية الجدران الخارجية للدور الأرضي من التآكل والتساقط.

ويستخدم الرماد أو الطين لربط الحجارة ببعضها البعض، ويتم تلبيس الجزء الأعلى من الجدار بطبقتين من الطين المخلوط بالتبن والرمل.

وتأتي بعد ذلك عملية التجصيص بالنورة وهي مادة جيرية، أو الرماد، أما الأسقف فهي ترفع من أعواد خشب الأشجار، التي ترص بانتظام ثم تغطى بحصيرة من سعف النخيل توضع فيها طبقة من الطين.

وبحسب الدراسات كانت تصل سماكة جدران الدور الأرضي للمنزل الشبامي إلى نحو 2 متر.

ويتناقص هذه السُماكة كلما اتجه البناء للأعلى، وتطلى المنطقة العليا من المنزل بطبقة من الجير الأبيض، ويكتمل سحر هذه البيوت بزخارف ونقوش فريدة على أبوابها الخشبية العتيقة.

شبام في كتب التاريخ

تاريخياً، تمكنت مدينة شبام من الحفاظ على شكلها الحالي منذ القرن التاسع للهجرة، الموافق للقرن الخامس عشر الميلادي.

وبناءاً على ذلك فإن عمر المباني الموجودة بها يبلغ حوالي 600 سنة. وقد اتخذت المدينة هذا الشكل العمراني المتميز حتى تكون حصناً متيناً ضد الأعداء.

وبالاضافة إلى هدف المحافظة على الأراضي المزروعة والمحيطة بها، ومنع تدهورها أو تصحرها.

وفي العام 2007، نالت شبام على جائزة “آغا خان للآثار القديمة”.

وفي يوليو/تموز العام 2015 أضافت منظمة “اليونيسكو” مدينة شبام، بالإضافة لمدينة صنعاء القديمة، على قائمة مواقع التراث العالمي المعرضة للخطر. وهو ما لا تحمد عقباه.

مباني شبام – الصورة: (مرخصة) وزارة السياخة

ووفقاً لمقالة نشرتها مجلة “السياحة العربية“، تعود تسمية شبام إلى ملكها وهو: شبام بن الحارث بن حضرموت بن سبأ الأصغر.

وقد عرفت شبام بعدة أسماء منها “بيحم” العالية، وبلدة حضرموت، وأم الجهة، والصفراء، والزرافة، والدمنة، وأم القصور العوالي، وناطحات السحاب، والوالدة.

وقد وصف الرحالة الهولندي “فان دير مولين” مدينة شبام حضرموت بأنها “تشبه الكعكة عندما يرش عليها السكر وذلك لبياض سطوحها”.

ووصفها الرحالة الألماني “هانس هافرتين” بأنها: “شيكاغو الصحراء العربية”، وذلك نظرا لموقعها المتميز وسط الصحراء.

وقد ذكرها المؤزخ الهمداني في كتابه “صفة جزيرة العرب”، وكذلك ذكرها كلا من ياقوت الحموي، والقزويني.

تظل مدينة شبام أحد التحف التاريخية الرائعة يمنياً وعالمياً، لما تتميز به من حضارة تاريخية عريقة اكتسبتها على مر العصور القديمة قبل ظهور الإسلام.

* المراجع والمصادر:

– فاطمة حسين، دراسة تكاملية البناء بالطين في والمعالجات التصميمية للفراغات الداخلية للمبنى“، مجلة العمارة والفنون، جامعة بني سويف، جمهورية مصر العربية، مايو، 2018.

– طارق بدراوى،مدينة شبام اليمنية “، مجلة السياحة العربية، جمهورية مصر العربية، 03 مايو، 2019.

مشعل شيبان، ومحمد السقاف،  دراسةالخصائص الفيزوحرارية للمواد الطينية في مباني شبام التاريخية”، وأثرها على توفير مرافق الراحة في تلك المباني”، مجلة الاندلس، جامعة الاندلس للعلوم التطبيقية، صنعاء. ديسمبر 2017.

تعليقات
Loading...

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط
error: Content is protected !!