fbpx

أشجار تعز: اقتلاع الزمن الجميل

مواطن يقتلع شجرة في تعز/تصوير: ريان الشيباني

• تحقيق وتصوير: ريان الشيباني

منتصف هذا العام، ومع اقتراب شهر رمضان، تهيّأ المواطنون في مدينة تعز، جنوب غرب اليمن، لتأمين احتياجاتهم من الغذاء والوقود والمؤن، في ظلّ حالة من التردّي الاقتصادي والحرب والحصار.

الاحتطاب الجائر، هي إحدى الوسائل التي لجأ إليها الأهالي في تعز، وخاصّة أصحاب المخابز والأفران التقليدية، لتأمين حاجاتهم من الوقود من خلال استخدام حطب الاشجار كوقود بديل لغاز الطهي.

الحاج السوادي وشجرته/ تصوير: ريان الشيباني

السوادي: شجرة بعمر الثورة

يُدعى الزقاق الفرعي الرابط بين شارع جمال وبين وادي القاضي، من الجهة الجنوبية الشرقية، حيّ السوادي. سألت العجوز الذي طلب منّي مرافقته لمشاهدة شجرة منزله، بعد أن قرأت اسم الحيّ على خزّان مياه بلاستيكي، من هو السوادي؟ فأجاب: أنا.

يسكن هذا العجوز الشارع منذ الستينات، ويرغب في اطلاعنا على شجرة بعمر وجوده في الحي.

شرح لي أنّه لم يكن هناك أحد لحظة بنائه لمنزله الصفيح، وأنّه باع الأراضي المحيطة بأسعار زهيدة، وبعضها منحها للأهالي دون مقابل. وبينما تطاولت المباني، وبعضها صارت تحوي أكثر من 6 طوابق، لا يزال السوادي في منزله الصفيح.

سلكنا ممرّ سلالم، بجانب غرف أرضية، وفسحة مغطّاة بصفائح التوتياء (الزنك). وعند سور الإسمنت، توجد قاعدة الجذع الكبير لشجرة الكافور المعمّرة. كان العجوز حزيناً، وهو يحاول أن يبعد الفروع الخضراء التي نبتت حديثاً، ليرينا الحجم الحقيقي للجذع.

إضطر الحاج السوادي إلى بيع الشجرة، قبل أسابيع قليلة، مع سعار الاحتطاب هذا، والذي ابتدأ مع الحرب، ولم ينته بعد. يشير الحاج إلى أن عمر شجرته هذه بعمر ثورة سبتمبر، قائلاً: “لقد غُرِست في العام الذي عُيّن فيه أوّل رئيس للجمهورية، المشير عبدالله السلّال”.

ويضيف أنّه “لم يكن في حسبانه أن يتخلّى عن الشجرة، التي صاحبته على مدى الفترة التي عرف فيها نفسه، لكنّه إضطر لبيعها، بعد أن عُرِض عليه مبلغ من المال سيساعده في إدارة شؤون حياته”.

الشجرة، أيضاً، كما يعتقد السوادي، غضبت منه لحظة اقتلاعها، ولذا سقطت على سقف منزله، وأحدثت ضرراً بالغاً. ومع أنّه لم يكشف اسم التاجر، أو الجهة التي اشترتها، إلّا أنّه أفصح عن أن “المشتري دفع له مبلغ مائة وعشرين ألف ريال، وأنّه استأجر منشاراً لقطعها، مقابل ثلاثة ألف ريال، لكلّ متر مربع”.

ولفت إلى أن “طول الشجرة بلغ 33 متراً مربّعاً”، متابعاً أن “رسوم قطعها، فقط، بلغت 99 ألف ريال، ناهيك عن المبلغ الآخر والذي دفع لناقلتين نوع “دينا”، لنقلها إلى المكان الذي يريده هذا الشخص”.

وبرغم العاطفة الوشيجة بين العجوز وشجرته، إلّا أنّه يرى أن “دفع مبلغ أكثر من مائتين ألف على شجرة، شيء مبالغ فيه، لو لم تكن الحرب”.

مواطن يقتلع شجرة في تعز/تصوير: ريان الشيباني

اقتلاع أشجار الجزر الوسيطة بالشوارع

كانت حتى وقت قريب، تنتشر على طول الجزر الوسطية لشارع جمال، أشجار أسيجة. وعلى الرغم من انتشارها، وكثرة مشاهدتها، يحير المرء في التسمية العلمية لهذه الأشجار، غير أنّه وبالنظر إلى أشكالها، تشبه إلى حدّ ما أشجار الديدونيا.

وعندما كانت السلطة المحلّية حاضرة، ظلّت فرق من صندوق النظافة والتحسين تقوم بجولات تشذيبيه لهذه الأشجار، لكيلا تتطاول بأفرعها إلى الشارع المسفلت. ثم أتت الحرب، وتركت الأمور للفوضى.

وعند المرور على الرصيف الوسطي في المساحة، بين فرزة ديلوكس وشارع التحرير، يوجد صفّ من هذه الأشجار، غير أنّها تبدو كبيرة الحجم، وكثير منها تعرّض للتكسير والاحتطاب.

أحد سكّان المدينة، والذي لم يغادرها منذ الحرب، قال إن “هذا الاحتطاب وقع من قبل الأهالي، بعد أن اشتدّ الحصار على المدينة في وقت سابق من المواجهات العسكرية”، مضيفاً أن “الأمر وصل إلى إحراق كراتين ومخلّفات، وموادّ أخرى لتوفير الوقود، آنذاك، بسبب انعدام مادّة الغاز المنزلي”.

الرئيس الحمدي يدشن موسم التشجير في صنعاء 1976/الصورة: ارشيف

أشجار من عهد الحمدي!

كلّ الذين عاشوا في الفترة الزمنية خلال العامين 1974 – 1976، يتذكّرون برنامج التشجير الذي دشنه الرئيس الشهيد الراحل إبراهيم الحمدي.

وكلّ الذين عاشوا حتّى جزءاً من السنة الجارية، شاهدوا الأشجار العملاقة (التي غرست في عهد الحمدي) وقد غطّت مساحات كبيرة في قفر بعض الشوارع. شارع محمد علي عثمان، والخطّ الرئيس في الحوبان أنموذجاً.

والمعروف، أن الأشجار التي تمّ غرسها بأوامر من سلطات الحمدي، وبمساعدة ما كان يسمّى آنذاك بـ”الحركة التعاونية”، تضمّنت أشجار الـ”الكافور” والتي تأخذ مساحات عمودية شاسعة، ولها عمر مديد. أحدهم ذكر أنّها صمدت بعمر نظام إبراهيم الحمدي، والذي ظلّ اليمنيّون يمجّدونه، ولا زالوا.

اجتثت تلك الغابات في الأشهر القليلة الماضية، تحت ظرف الشعور بالحاجة الماسّة. هناك، لا تزال شجرة وحيدة في شارع محّمد علي عثمان، وللمفارقة العجيبة، يستخدمها الباعة ظلّاً للسوق السوداء لبيع أسطوانات الغاز.

سألت الرجل المكتنز القصير ذا اللحية المجعّدة: بكم الأسطوانة؟ أجاب: ثلاثة ألف وسبعمائة ريال. لا تندهشوا، مع هذا السعر الضخم، يقول صديق بجانبي: الحمد لله، لقد انخفض سعره.

أنا غرست شجرة!

يتذكر نجيب غشّام حيدر (57 عاماً)، موظّف حكومي في مكتب وزارة التجارة في تعز، كل اللحظات التي تمّ أخذه فيها من مدرسته في تعز، وهو طالب ثانوية في العام 74 ليغرس شجرة.

يلفت نجيب إلى أن هناك اعتقاداً شعبيّاً بأن الشجرة تعمّر بعمر غارسها، ولذا تمّ الاعتماد على طلّاب المدارس لوضع الشتلات في الجزر الوسطية والطرفية للشوارع.

ويسترجع نجيب مشاركته في غرس شتلات أشجار الكافور من فرزة صنعاء إلى منطقة دمنة خدير، ومن جولة الحوبان في المفرق المؤدّي إلى عدن، إلى مدينة القاعدة شمالاً باتّجاه محافظة إب.

حاليّاً، لا يمارس نجيب عمله بسبب الحرب، فيما رفيقاته الأشجار يقتلعن من الشوارع دون أدنى شعور بالرأفة والشفقة. “إنّها الحرب، والحاجة”. ولذا يشعره هذا الموضوع بالحزن هو الآخر. “هذه الأشجار من الشواهد الكثيرة على ثلاث سنوات ذهبية من حضور الدولة، بمعناه الحقيقي، لا الزائف”.

يشير نجيب إلى أن البرنامج الحكومي لدولة الحمدي شمل مناطق نائية من اليمن، ووصل إلى قرى وأرياف في البيضاء، ومحافظات أخرى عديدة.

وفي تفصيل أخير، لما اعتبره حضور الدولة، تحدّث نجيب عن أن حكومة الحمدي رفضت منح تراخيص لرجال أعمال، كانوا يحاولون تصدير الفحم الخشبي إلى دول الخليج، تخوّفاً من إحداث تجريف للبيئة اليمنية، واستنزافها، خاصّة مع حالة السيولة المالية الخليجية، وشحّتها نسبيّاً في تلك المرحلة.

تصوير ريان الشيباني
طفل في تعز يقتلع شجرة/تصوير: ريان الشيباني

الحطب أرخص؟

عند بحثنا عن نموذج عملي يمكن من خلاله استخلاص المجزرة الكبيرة التي تتعرّض لها أشجار مدينة تعز ومحيطها، زرنا فرن الصلوي لصناعة الخبز “الرغيف” والروتي ومخبوزات أخرى، والذي يقع بالقرب من مكتب التربية في شارع المصلّى.

ويمكن مشاهدة الجذوع الكبيرة لأشجار السدر، ممتدة على طول الرصيف، بجانب الفرن. بعض الجذوع كبيرة، ولا تدع مجالاً للشك بأن الأشجار التي اقتطعت منها، أشجار عملاقة، ولا يزال اللحاء ممسكاً إمساكاً تامّاً بهذه الجذوع.

صاحب الفرن، والذي تبدو على ملامحه أمارات التذمّر والبؤس، قال إنّه “في الأوقات الطبيعية يمكن لهذه الجذوع أن تكون أثاثاً كمكاتب ودواليب وغرف نوم، لكن عندما يكون الأمر متعلّقاً بالطعام، يجب أن ترمى في النار ليأكل الناس”.

ويرى الصلوي أن “استخدام الحطب أوفر في ظلّ الظروف الحالية، والتي يصل فيها سعر الجالون الديزل (20 لتر) إلى خمسة ألف ريال”، متابعاً أن “السعر المناسب لتشغيل الفرن بالديزل هو أن يكون سعر الجالون ثلاثة ألاف ريال، وليس أكثر من ذلك”.

ونبّه الصلوي إلى “وجود إشكالية نفسية في الاعتماد على الديزل أيضاً، فهو يخضع لمزاج السوق وفوضويّته، ولذا يوجد في أوقات ويختفي في أخرى، ممّا يؤثر على استمرارية عملهم”.

ومن الأشياء التي يعتبرها الصلوي مميّزات لاستخدام الحطب، أن “المتاجرين بالحطب لا يطلبون مبالغهم مقدّماً، وتُدفع لهم أموالهم على دفعات، بحسب الإستهلاك اليومي”.

وحول الفاعلية، أكّد الصلوي أن “أشجار السدر تعتبر الأكثر فاعلية، من حيث قوّة وقودها على تشغيل الفرن، وإنضاج الخبز”، زائداً أن “سعر ناقلة الأحطاب الممتلئة خمسون ألف ريال، والمتوسّطة الحمولة ثلاثون ألف ريال”.

جذع اقدم شجرة بتعز- ريان الشيباني
جذع اقدم شجرة تم اقتلاعها في تعز/تصوير: ريان الشيباني
تعليقات
Loading...

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط
error: Content is protected !!