• الدكتور/ أحمد مصطفى العتيق*
الهدف الرئيسي للاقتصاد بالصورة التي يعمل بها الآن، هو أن ينمو، وكلما نما ازداد السياسيون سعادة وسروراً. ولكنه اقتصاد يدمِّر ذاته!
فالمؤشرات الاقتصادية لنصف القرن الماضي تبيِّن تقدماً ملحوظاً، حيث توسِّع الاقتصاد سبعة أضعاف فيما بين عامي 1950-2000، وكان نموّ التجارة الدولية أسرع.
لكن المؤشرات البيئية متجهة في الاتجاه الخطأ: فالسياسات الاقتصادية التي حققت نمواً كبيراً في اقتصاد العالم، هي نفسها التي تدمِّر نظمها الداعمة.
سوء الإدارة يدمر الغابات والمراعي ومصايد الأسماك وأراضي الحاصلات الزراعية، وهي النظم البيئية الأربعة التي تُقدِّم لنا الغذاء وكل المواد الخام أيضاً باستثناء المعادن.
وعلى الرغم من أن العديد منا يعيش في مجتمع حضري عالي التكنولوجيا، فإننا نعتمد على النظم الطبيعية لكوكب الأرض كما كان أجدادنا الذين كانوا يعيشون على الصيد وجمع الثمار.
وللتعبير عن النظم البيئية بعبارات اقتصادية، فإن النظام الطبيعي مثل مصايد الأسماك يعمل كأنه هبة.
فالدخل من فائدة الهبة سيستمر إلى الأبد، مادامت الهبة قائمة، فإذا ما انخفضت الهبة، تناقص الدخل. وإذا انتهى الأمر باستنزاف الهبة، فإن الدخل من العائد سيختفي.
وكذلك الحال مع النظم الطبيعية. فإذا تجاوزنا العائد المتواصل من مصيدة الأسماك، فإن مخزون الأسماك سيبدأ في الانكماش. وفي النهاية يستنزف المخزون وتنهار مصايد الأسماك، وتختفي التدفقات النقدية من هذه الهبة أيضاً.
وبدخولنا إلى القرن الحادي والعشرين، يدمِّر اقتصادنا ببطء نظمه الداعمة، إذ يستهلك هبته من رأس المال الطبيعي. وطلبات الاقتصاد المتنامي في تركيبته الحالية، تفوق العائد المتواصل للنظم البيئية.
ولعل ثلث أراضي المحاصيل في العالم -على الأقل- تفقد الطبقة السطحية من التربة بمعدل يضعف إمكانياتها الإنتاجية طويلة المدى. وخمسون بالمئة من المراعي في العالم تعاني من الرعي الجائر وتتدهور إلى صحراء.
لقد انكمشت غابات العالم إلى حوالي النصف منذ فجر الزراعة، ومازالت تنكمش. وثلثا مصايد الأسماك في المحيطات يتم فيها الصيد بكامل طاقتها أو يزيد، فالصيد الجائر هو القاعدة الآن وليس الاستثناء، والإسراف في ضخ المياه الجوفية شائع في المناطق الرئيسية لإنتاج الغذاء.
ومن هنا تعاطف علماء الاقتصاد مع وجهة نظر الناشط البيئي الأميركي إدوارد آبي (Edward Abbey) التي تقول: «إن النمو من أجل النمو هو أيديولوجية الخلية السرطانية».
ففي الأيديولوجية الرأسمالية، لا يهم إن كان النمو الاقتصادي مدمراً، ولا يزيد من الرفاهية الإنسانية. والمهم هو أن يحدث تداول أكبر للنقود في السوق العالمية، ويوجد تركيز مبالغ فيه على مستوى المعيشة الذي يقاس عادة من منظور مادي بحت، وتركيز غير كافِ على جودة (أو نوعية) الحياة.
وبالنسبة لهؤلاء العلماء المعنيون بالاقتصاد الأخضر، يمثل النمو المشكلة الرئيسية، ليس فقط لأنه عادة ما يتم شراؤه على حساب الكوكب، بل أيضاً لأنه يقلل فعلياً جودة حياتنا.
فقد تسببت أساليب الحياة في القرن الحادي والعشرين في انقراض أنواع إحيائية على نطاق هائل. ومن خلال التسبب في التغير المناخي فإن مستقبلنا أصبح مهدداً كواحد من الأنواع الإحيائية.
وعلى حين يركز علم الاقتصاد التقليدي بصورة شبه كاملة على الكمية، يهتم علماء الاقتصاد الأخضر بجودة (أو نوعية) الحياة الإنسانية.
ويقترح علماء الاقتصاد الأخضر الابتعاد عن التركيز على النمو الاقتصادي والاتجاه نحو اقتصاد الحالة الثابتة (او المستقرة STEADY – STATE ECONOMY) الذي هو الاتجاه الوحيد للاقتصاد الذي يمكن أن يكون مستداماً على المدى الطويل.
ففي هذا الاقتصاد الأخضر يتم احترام الحدود الكوكبية، ولذلك تكون الأرض المورد الأكثر شحّاً وندرة، ويؤدي بنا ذلك إلى استنتاج أننا ينبغي أن نستخدمها بصورة حكيمة قدر الإمكان وتعظيم إنتاجيتها، مع الحد في الوقت نفسه من استخدامنا لها، ولذلك ينبغي أن نركز على الجودة بدرجة أكبر وعلى الكمية بدرجة أقل.
ولكي نحقق هذه الحالة الثابتة أو المستقرة، نحن بحاجة إلى إيلاء اهتمام بعدد الأفراد المشتركين في موارد الأرض ومستوى استهلاكهم معاً.
كما ينبغي أن نعي أيضاً قدرة الكوكب على تجديد نفسه – التي هي موردنا الأساسي الوحيد – بحيث لا يتم استهلاك الموارد غير المتجددة بمعدل أسرع من تطوير بدائل متجددة، ويجب تقييد إنتاجنا من النفايات (ويشمل التلوث) بمستوى لا يتجاوز طاقة حمل الكوكب.
إن المفكرين الخضر يدركون جيداً حدود النمو، بالإضافة إلى توجيه اهتمام خاص للطريقة التي يتم بها توزيع الموارد القائمة.
ولهذا السبب يعادل الاهتمام بالعدالة في الأهمية الاهتمام بكوكب الأرض بالنسبة لعلم الاقتصاد الأخضر، كذلك يولي الاقتصاد الأخضر أهمية خاصة بظاهرة الفقر سواء في اقتصادات الغرب الأغنى أو في سياق الجنوب.
لكن الأمر يزداد تعقيداً بسبب أن أسلوب الحياة الأخضر مكلف أكثر بكثير من أسلوب الحياة التقليدي! نظراً لما يشمله من منتجات طبيعية وطعام عضوي.
ولذلك ذهب بعض علماء الاقتصاد الأخضر إلى أن أطلقوا عليه «أيكولوجيا الجيب العميق» لأنه الوحيد المتاح لمن يمَكِّنهم دخلهم من تمويل هذا الاختيار، فبوسع أولئك الذين يملكون أرصدة بنكية أكبر أن يعزلوا أنفسهم أيضاً عن تأثيرات التلوث أو الإجهاد البيئي بوجه عام. حيث إن الظروف البيئية الأسوأ توجد في أفقر البلدان أو أفقر المناطق داخل البلدان.
* المصدر: مجلة الدوحة الثقافية. يونيو 2013.