بقلم: توماس فريدمان *
أكتب من مستشفى اليمن الدولي في تعز، هذه المدينة اليمنية الواقعة في المرتفعات الوسطى، والتي تعاني نقصاً مريعاً في المياه للحد الذي يضطر السكان إلى فتح صنابير مياههم لمدة 36 ساعة فقط، كل 30 يوماً أو نحو ذلك ليعبئوا بالمياه أكبر قدر من الأواني، ثم يعتمدون بعد ذلك على شاحنات المياه التي تأتي من الجوار لتبيع المياه مثل سلعة ثمينة.
جئت إلى هنا لأزور “محمد قايد”، وهو عامل يبلغ من العمر 25 سنة من قرية “قراضة” القريبة، أصيب في الليلة السابقة بثلاث رصاصات في يده وصدره، أطلقها قناص من قرية “المرزح” المجاورة.
كلا القريتان تتقاتلان على إمدادات المياه الناضبة بسرعة والتي تأتي من الينابيع الجبلية المشتركة. وقد قتل جراء ذلك ستة أشخاص وأصيب كثيرون غيرهم في الاشتباكات التي اشتعلت منذ عام 2000، واشتدت في الآونة الأخيرة. تعرض أحدهم للقتل الليلة قبل الماضية.
وعلى الرغم من أن “قايد” يعاني آلاماً مبرحة الا انه يريد ان يشرح للناس ما يدور هنا. ووجهت إليه سؤالاً واحداً: «هل أُصبت حقاً بالرصاص في معركة على المياه؟»، ويجيب عن السؤال قائلاً: «لم يكن الأمر عن السياسة، ولا عن جماعة الإخوان المسلمين، لكنه عن الماء».
وتكمن رسالة في تلك الإجابة، فاليمن بلد يبهر الأنفاس بجماله، شعبه رائع، لكنه يعاني كارثة في التنمية البشرية. ما يحدث هنا هو نتيجة لنصف قرن من سوء الإدارة السياسية، وسوء إدارة الموارد الطبيعية، والتشوهات التي خلقها النفط، والانفجار السكاني.
ولكن اليمن متقدم بعقد من الزمان او نحو ذلك من سورية ومصر في ما يتعلق بأزمات التنمية البشرية التي ستواجهها هذه المنطقة بأسرها.
عندما سألت عالمة البيئة الأميركية العظيمة، دانا ميدوز، عما اذا كان الوقت قد فات على القيام بأي شيء حول تغير المناخ، ردت بقولها «لدينا ما يكفي من الوقت بالضبط – بدءاً من الآن».
العالم العربي لديه من الوقت ما يكفيه – بدءاً من الآن. فإذا لم يكف الناس عن قتال بعضهم بعضاً بسبب الأيديولوجيات البائدة والخلافات الطائفية، ويركزون بدلاً من ذلك على التغلب على ما ينقصهم من المعرفة، والحرية، وتمكين المرأة – كما يحث تقرير الأمم المتحدة عن التنمية الإنسانية العربية – فلن يكون هناك أي أمل.
وكما يعتقد “قايد”، فان تلك الايديولوجيات القديمة في اليمن تعتبر شيئاً من الكماليات الآن. أنها فقط عن المياه.
جئت إلى تعز لكتابة مقالي وتصوير فيلم وثائقي لقناة «شوتايم» عن المناخ والصحوة العربية. وصلنا إلى هنا على متن مروحية تابعة للقوات الجوية اليمنية، بمعية وزير المياه والبيئة السابق، عبدالرحمن الأرياني، الذي لا يلوك كلماته، يقول: «في صنعاء، العاصمة، كنا نحفر في ثمانينات القرن الماضي إلى نحو عمق 60 مترا للعثور على المياه، اما اليوم، فعليك ان تحفر من 850 إلى 1000 متر للعثور على المياه. اليمن لديها 15 خزاناً من المياه الجوفية، واليوم اثنان منها فقط ذواتا تغذية ذاتية، أما البقية فيجري استنزافها بشكل مطرد. وفي أي مكان في اليمن يتم فيه استنزاف مخزون المياه الجوفية، تجد هناك أسوأ الصراعات».
ويضيف الأرياني، أن من أكثر المخزونات الجوفية المهددة في اليمن هو حوض رداع، ويسترسل: «وهذه المنطقة واحد من معاقل تنظيم القاعدة». وفي الشمال، على الحدود مع المملكة العربية السعودية، كانت منطقة صعدة من أغنى مناطق زراعة العنب والرمان والبرتقال. «لكنها استنفدت مخزونها من المياه الجوفية للحد الذي جعل العديد من المزارع تصاب بالجفاف التام».
وقد ساعد ذلك بالتالي على خلق بيئة مناسبة لطائفة الحوثيين الموالية لإيران لتجنيد الشباب، وعمال المزارع العاطلين عن العمل لبدء حركة انفصالية.
ظهرت هذه الكارثة البيئية في سبعينات القرن الماضي عندما بدأت الطفرة النفطية تتفجر في الخليج العربي، وترك بين مليونين الى ثلاثة ملايين من العمالة اليمنية غير الماهرة قراهم ليعملوا في انشطة البناء في المملكة العربية السعودية.
ونتيجة لذلك، كما يقول الارياني «خلت الأرياف من سكانها من القوى العاملة»، ولهذا السبب لجأت النساء إلى قطع الأشجار للحصول على الوقود، وتعرضت المدرجات بالتالي للانجراف لانعدام الصيانة، والتي أدت بدورها إلى تآكل التربة على نطاق واسع على جوانب التلال، والى إطماء واسع النطاق في الأودية، التي تستخدم لزراعة ثلاثة محاصيل في العام، من ضمنها القهوة اليمنية الشهيرة.
أدى انجراف التربة واطماء الأودية الى انهيار تجارة البن، واضطر اليمنيون الى زراعة محاصيل نقدية أخرى تحتاج إلى تربة أقل خصوبة، وافضل تلك المحاصيل هو القات، ذلك النبات المخدر الذي أدمن عليه هذا البلد، لكن القات يحتاج الى الكثير من المياه، الامر الذي ادى إلى نضوب المياه الجوفية.
في تعز، قابلت قادة القريتين المتحاربتين: عبدالمنعم من قراضة، يبلغ من العمر 42 عاما، وأحمد قايد من المرزح، يبلغ من العمر 40 عاماً، يشتركان في شيء واحد: لكل واحد منهما 10 أطفال، وعندما سألتهما ماذا سيحدث لإمدادات المياه عندما يكون لكل ابن منهما 10 أطفال، في البداية ذكرا بأن «الله كريم»، ثم قالا ان الحل يكمن في «تحلية المياه»، الا ان هذا يكلف من المال أكثر مما تستطيع اليمن توفيره الآن.
يقول الارياني: «عانى اليمن من عقارين مخدّرين: القات وأموال النفط السهلة». شرب القات كل الماء، وأغرت أموال النفط السهلة القوى العاملة الريفية للهجرة والعمل في الأنشطة التي تحتاج إلى مهارة.
لكن الآن تمت إعادة معظم العمال اليمنيين إلى وطنهم من المملكة العربية السعودية، ليجدوا بلداً نفذ منها المياه، وبه عدد قليل من الوظائف، ونظام تعليمي عام متعثر يدرس العلوم الدينية أكثر من المواد العلمية.
ولهذا فان ما يحتاجه اليمن أكثر من أي شيء أخر – طبقة متعلمة غير مرتبطة بالزراعة المحرومة من الماء – لا يمكنها الحصول عليه إلا من خلال قيادة رشيدة وإجماع سياسي جديد.
هناك بصيص أمل، إذ ينغمس اليمنيون الآن في حوار وطني سلمي فريد من نوعه – شيء مختلف جداً عن ما يحدث في سورية ومصر، تساهم المرأة فيه بنسبة الثلث، لإنتاج قيادة جديدة.
ربما بدأوا من الأساس، وباستثناء جميع الدول العربية التي شهدت انتفاضة، فإن لدى اليمنيين أفضل فرصة للبدء من جديد، إذا انتهزوا هذه الفرصة الآن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* توماس فريدمان: صحفي وكاتب أميركي، نشر هذا المقال في «نيويورك تايمز» أثناء زيارة فريدمان إلى اليمن، في مايو 2013.
– ترجمة المقال للعربية:عوض خيري من صحيفة “الإمارات اليوم”.