حلم أخضر – تقرير خاص
قبل 20 عاماً فقط، كان بمقدور الناس مشاهدة مزارع وحقول العنب المتواجدة في مناطق العاصمة صنعاء، كبساتين حقول منطقة ” ظهر حمّير” المعروفة اليوم بـ”سعوان”، و منطقة “الروضة”، ومنطقة “بيت بوس” وغيرها.
كانت تلك المناطق في مدينة صنعاء عبارة عن حقول وبساتين خصبة تنتج أجود أصناف العنب والتي اشتهرت تاريخياً بجودة أنواعه المتعددة. وفقاً لما دونته كتب المؤرخين الرحالة الأجانب الذين وصلوا اليمن. ولعل المستكشف وعالم الخرائط الالماني كارستن نيبور، وهو رئيس البعثة العلمية الدنماركية التي زارت اليمن عام 1762، يصف في مذكراته “رحلة الى العربية السعيدة” أن مدينة صنعاء لوحدها كانت تزرع 60 نوعاً من أنواع العنب اليمني الذي يعد الأجود في العالم مذاقاً وجودة.
اليوم، اختفت كل حقول العنب العظيمة تلك من داخل العاصمة صنعاء. لكنها على مستوى اليمن ككل، ماتزال تقاوم الانقراض، كونها لم تعد هناك غير 6 مديريات فقط في محافظة صنعاء المحيطة بأمانة العاصمة ماتزال تزرع العنب وهي: مديريات “بني حشيش وخولان وسنحان وبني الحارث وأرحب وهمدان”، بالإضافة الى زراعته في بعض مناطق محافظات: صعدة وعمران والجوف وذمار. غير أن عنب صنعاء هو الأجود والأشهر على الاطلاق نظرا لخصوبة طين الأرض فيها وبرودة الطقس والمناخ.
العنب اليمني في سطور
يصنف العنب اليمني باعتباره الأجود على مستوى دول العالم، ويكتسب شهرته الضاربة منذ القدم، من تنوع أصنافه والوانه وأشكاله، والتي تنتجها مزارع كثيرة منتشرة في العديد من المحافظات خاصة صنعاء التي تصدر سنويا زهاء 80% من الإنتاج العام لفاكهة العنب في اليمن، فضلا عن مذاقه الخاص والنادر عالمياً.
ووفقاً للمعلومات غالبا ما تبدأ مزارع العنب في اليمن في إنتاج نوعين شهيرين منذ بداية يونيو هما الجبري والعرقي، والذين تنتجهما مزارع حاشد وأرحب بمحافظة صنعاء ثم تأتي بقية الأنواع تباعا من كل مزارع المحافظة والمحافظات الأخرى التي يستمر انتاجها حتى نهاية أكتوبر من كل عام.
ويبلغ عدد أصناف العنب الذي كان يزرع في مناطق اليمن وفقا للموسوعة اليمنية إلى ما يقارب الـ 60 صنفا منها: ” العنب الرازقي، العاصمي، الأسود العادي، الحاتمي، الزيتوني، الجوفي، بياض عادي، قوارير، أطراف قريمي، بياض فشان، جبري، اسود حدرم، اسود الدوال، الحسيني، اسود عذاري” وغيرها.
ولعل العنب الذي كانت تزرعه حقول العاصمة صنعاء، قد تقلصت انواعه من 60 نوعاً، الى 16 نوعاً يجري زراعتها في الحقول بحسب المصادر الزراعية. والتي قد تندثر في عضون الـ 10 سنوات القادمة إن لم يتم الحفاظ عليها ضمن مشروع وطني زراعي جاد. كي لا ينتهي بها الأمر مثل تلك الحقول القديمة التي كانت تحيط عاصمة اليمن، والتي انقرضت كمزارع “ظهر حمير -سعوان” ومزارع “الروضة” اللتان كانتا أكثر شهرة وجودة في فاكهة عنبها اللذيذ، وأنواع أخرى من الفواكه.
تلك الأنواع من الفواكة والتي انقرضت من جبال وحقول العاصمة وضواحيها صنعاء، أوردها الرحالة والمستكشف الإيطالي “رينزو مانزوني” في كتابه “رحلة الى صنعاء” حين زار اليمن ومكث في صنعاء خلال الفترة 1877-1878، وقد ذكر مانزوني في كتابه أن الفواكه التي وجدها في بساتين وحقول صنعاء هي: السفرجل، والتفاح، والمشمش، والبرقوق، والجوز، والدراق، وغيرها، والتي لم تعد موجودة الآن في مزارع صنعاء.
بالإضافة لكل أنواع الخضروات التي تزرعها المدينة، بما فيها حقول “الثوم البلدي” التي كانت تفوح رائحتها من كل الجبال المطوقة لمدينة صنعاء، إذ أصبحت اليمن تستورد “الثوم اليابس” من الصين.
العنب اليمني: ليس مجرد فاكهة
في ممالك سبأ القديمة، اشتهر اليمنيين بكونهم فلاحون مهرة، استطاعوا تطويع الأرض الزراعية، وبنوا السدود وشيدوا الحدائق الزراعية المعلقة فوق الجبال والمعروفة بالمصاطب، أو المدرجات الزراعية. وتمكنوا من تطوير الزراعة وبرعوا في زراعة الحبوب والعنب والنخيل وغيرها. وكانت ارضهم تعرف بأرض الجنتين (في الشمال والجنوب).
وبحسب افادة الباحث وخبير النقوش والاثار اليمني معمر الشرجبي، فأن التماثيل اليمنية القديمة، تشير الى آلهة الخمرة في اليمـن القديـم، وهي من روائع القطع والآثار اليمنية الموجودة في المتاحف العالمية. حيث يبرز لوح من المرمر منحوت عليه بإبداع يفوق الوصف رسوم بشرية وحيوانية ونباتية. ويظهر فيه نحت يصور آلهة الخمـر اليمنية، وليست آلهة الاغريق أو اليونان أو فلسطين أو باقي الأرض العربية بل آلهة الخمرة عند اليمن القديم. ويظهر النحت نصف جسد الآلهة مغطى بأوراق وعناقيد العنب الذي اشتهرت به اليمن منذ فجر التاريخ، وتظهر أوراق العنب في النحت متمايلة ومتموجة وكأنها صورة فوتوغرافية لورقة عنب حقيقية.
وبحسب موقع متحف (والترز) للفنون في بالتيمور بالولايات المتحدة الأمريكية، فإن اللوحة الشهيرة لآلهة الخمرة في اليمن، هي من مأرب ويعود تاريخها الى منتصف القرن الثاني الميلادي. وتلك اللوحة التي تحدث عنها الباحث الشرجبي هي التي تم وضعها على العملة اليمنية للفئة النقدية لورقة 20 ريال.
المحبط في العقدين الاخيرين، أن وزارة الزراعة اليمنية وكل الحكومات المتعاقبة، لم تكترث لكل ذلك الإرث التاريخي العظيم لبلد الفلاحين والذي يشكله العنب، والبن كهوية وطنية تمتاز بها اليمن. ولم تقم تلك الحكومات بجدية في وقف هذا الدمار الذي لحق بأجود الأراضي الزراعية التي كانت تحيط بمدينة صنعاء القديمة. فكل من تولوا زمام الأمور لم يقوموا بشيء للحفاظ على ارث صنعاء الزراعي. والنتيجة أن مدينة “أزال” الخصبة صارت اليوم خالية من الأشجار والحقول التي كانت تتقدمها مزارع العنب ذو الجودة الذائعة الصيت. واليوم لن يجد المرء أثراً لبساتين العنب التاريخية تلك داخل مدينة صنعاء. كونها انقرضت وأصبحت الان في ضواحي محافظة صنعاء وهي في تقلص مستمر.
أسباب تراجع زراعة العنب
قبل تعرض اليمن للحرب الراهنة، كانت ثمة أسباب تقف وراء تدهور زراعة العنب في العاصمة صنعاء. لعل أبرزها عدم اهتمام الدولة وتراخيها عن الحفاظ على العنب كموروث زراعي وارث وطني وتاريخي امتازت به اليمن منذ القدم.
ونتيجة لذلك، تخلى الفلاحين ومُلاك الحقول الزراعية في مدينة صنعاء عن إرث مزارعهم الخصبة، وقاموا ببيعها كأراضي سكنية نتيجة زحف حركة العمران والتشييد ونمو العقارات واتساع رقعة البناء في العاصمة صنعاء، والتي تنامت قبل عقدين بشكل كبير دون تنظيم استراتيجي، لدرجة أن هذا الاتساع قضى على أكبر المزارع والبساتين التاريخية بمدينة صنعاء وسط صمت رسمي تام.
فالزحف العمراني لم يتوقف فقد في العاصمة صنعاء، بل تعدى مداه ليصل لمديريات محافظة صنعاء، فمثلاً في مديرية “بني الحارث” في محافظة صنعاء تسبب زحف العقارات السكنية بالقضاء على الأراضي الزراعية المخصصة للعنب والتي كانت تعتبر من أخصب الأراضي الزراعية في صنعاء واليمن على حد سواء. الأمر الذي تسبب بانعكاسات سلبية على الجانب الاجتماعي والجانب البيئي. فزيادة البناء يفاقم من زيادة التصحر بشكل سريع. ويسبب ارتفاع حدة التلوث، ويقود الى الإخلال بتوازن النظام البيئي. والقضاء على الغطاء النباتي الذي كان يحيط بصنعاء.
وبحسب المعلومات المتداولة، قام تجار العقارات بشراء الأراضي الزراعية بعد الاتفاق مع ذوي المصالح في مكاتب الاشغال والإسكان والتخطيط الحضري في أمانة العاصمة صنعاء وفي محافظة صنعاء، ليتم اعتماد مخططات سكنية فوق الأراضي الخصبة زراعياً، وقبل الإعلان عن إنزال تلك المخططات السكنية لتحويل الأراضي الزراعية الى شوارع وأحياء وعقارات، يسارع تجار الأراضي والنافذين لشراء الحقول الزراعية بمساحات كبيرة وبأسعار زهيدة ترتفع قيمتها بعد امتلاكهم لها.
ويروي أحد الفلاحين لموقع “حلم أخضر” أن الأراضي الزراعية وحقول العنب التي كانت تتواجد في منطقة (ظهر حمّير -سعوان) كانت قبل قرابة 25 سنة تباع فيها الأرض الزراعية بسعر 100 ألف ريال لقيمة اللبنة الواحدة، وبعد أن يبيع الفلاحين أرضيهم الزراعية لتجار عقارات، يأتي اعلان مخطط سكني للمنطقة من الدولة، فيرتفع فيها سعر اللبنة الواحدة من 100 ألف ريال الى أكثر من 500 ألف ريال لسعر اللبنة الواحدة آنذاك.
وهكذا اضطر كثير من المزارعين لبيع أراضيهم الزراعية والتي يجدون أن سعرها سيجلب لهم أموالا أفضل من أرباح محاصيل العنب. والنتيجة أن كل تلك المناطق صارت اليوم كتل سكنية من الاسمنت: عمارات وفلل وبيوت شيدت فوق أخصب الأراضي الزراعية التي اشتهرت بمحاصيلها من الفاكهة لقرون عدة.
العنب ضحية الحرب والعمران والجفاف
في منطقة “بني حشيش” و”شبام الغَراس” في محافظة صنعاء، تمتد مزارع العنب على مد النظر، على بعد قرابة 40 كيلو مترا إلى الشرق من صنعاء العاصمة، وتنام قرى بني حشيش وشبام الغراس والحتارش، وهي من أشهر مناطق إنتاج العنب بأصنافه المتعددة. وتعد منطقة “بني حشيش” اليوم أكبر منتج للعنب ذو الجودة العالية. غير أن هذه المنطقة وفي غضون الـ10 سنوات الأخيرة، بدأت تشهد حركة ازدحام سكاني وظهور عدد من المصانع والأعمال التجارية، مما جعلها تشهد حركة بناء وعمران وتشييد عقارات للسكان فوق أراضي زراعية خصبة.
الكارثة، أن هذا الأمر أصبح يجري على قدم وساق في مديرية بني حشيش، وغرضه تحويل أخصب الأراضي الزراعية الى مخططات سكنية يتم البناء عليها. الأمر الذي يدفع بكثير من الفلاحين لبيع أراضيهم لتجار العقارات الذين يقبلون على شراء الأراضي الزراعية كونهم على دراية بموعد إنزال مخططاتها السكنية وتحويلها الى مناطق حضرية. وهو ما لا تحمد عقباه.
وفي وسط حقول العنب في “بني حشيش” تبرز عدد من العقارات والبيوت الحديثة التي شيدت على جانبي مزارع العنب، الامر الذي سيقود لانقراض زراعة العنب في واحدة من أهم وأكبر مناطق زراعته. فثمة تجارة بدأت تنتشر في تلك المنطقة. لدرجة يشعر فيها المرء بالإحباط حين يرى الريف الزراعي يفقد أهم أحد وظائفه ومميزاته على مر العصور.
وخلال سنوات هذه الحرب، تعرضت أكثر من 189 مزرعة عنب لضرر بالغ جراء قصف طيران التحالف السعودي في محافظة صنعاء (بني حشيش) ومحافظة صعدة شمالا، بحسب تصريحات سابقة أدلى بها صلاح المشرقي، مدير عام الإرشاد الزراعي بالاتحاد التعاوني الزراعي التابع لوزارة الزراعة والري، والذي قال: “إن الآثار غير المباشرة للحرب كان لها الدور الأبرز في التأثير على الإنتاج، إذ إن شح مادة الديزل تسبب في نقص المياه بسبب عدم القدرة على تشغيل ماكينات ومضخات الري، وهو ما أدى إلى جفاف بعض الأشجار وضعف المحصول، بالإضافة إلى نزوح بعض المزارعين من قراهم خوفا من قصف الطيران”.
2018: تراجع الانتاج وتدمير حقول العنب
تقريبا، لاحظ معظم سكان صنعاء خلال الشهرين الماضيين، أن محصول العنب هذا العام كان الأقل حجماً وجودة، من بين كل المواسم على الاطلاق. فكميات العنب التي شهدتها الأسواق هذا العام، لم تكن بالحجم والجودة التي عرفها اليمنيين في السابق. ويعزى الأمر لقلة الإنتاج هذا العام بسبب الحرب وشحة المياه لري الأراضي الزراعية، وانعدام المشتقات النفطية وخصوصا مادة (الديزل) التي يعتمد عليها المزارعين. نتيجة تدهور الوضع الاقتصادي، فضلا عن انصراف عدد كبير من الفلاحين عن اراضيهم وتخليهم عن الزراعة، ما سبب هجرة الريف الى المدن بحثاً عن فرص جديدة للعيش.
ومنذ اندلاع الحرب التي يشنها التحالف العربي بقيادة السعودية على اليمن، منذ مارس 2015، تقلصت مساحة الأراضي الزراعية المزروعة بأشجار العنب إلى قرابة 1869 هكتاراً. ويعزى هذا التقلص الى تعرض مئات المزارع وحقول العنب في صنعاء للقصف الجوي وتدمير محصولها، فضلاً عن تعرض تلك الأراضي للجفاف بسبب انعدام المياه وشحة الأمطار لسقي الأراضي الزراعية.
قبل هذه الحرب، كانت المساحة المزروعة للعنب في البلاد تقدر بحوالي 13.613 ألف هكتاراً وفقاً لإحصاءات العام 2013. وفي العام 2016 تقلصت مساحة زراعة العنب اليمني إلى 11.744 ألف هكتاراً وفقا لبيانات وزارة الزراعة والري اليمنية، والتي كشفت في تقرير أوردته جريدة (العربي الجديد) أن إنتاج محاصيل العنب انخفض إلى 146.730 طناً في العام 2015، وفي العام 2016 انخفض إلى 130.234 طناً، بفارق 16.496 ألف طن.
إلى ذلك، كان إنتاج مزارع العنب مستقرا عند حدود 151.468 طناً حتى نهاية العام 2014، الأمر الذي أدى إلى تراجع هامش الفائدة من قيمة المبيعات في إنتاج العنب خلال سنوات الحرب، إلى أن وصلت إلى السالب، بحسب تصريحات الدكتور محمد الحميري، وكيل وزارة الزراعة والري لقطاع الخدمات الزراعية، والذي أشار إلى أن ضعف العملة المحلية مقابل الدولار ضاعف من تكاليف الإنتاج الزراعي بسبب ارتفاع أسعار المكملات الزراعية المستوردة مثل المبيدات الزراعية وغيرها من مدخلات عملية الإنتاج.