حلم أخضر | تحقيق:حسان ياسر*
قضية منسية في أذهان المسئولين، وتتذكرها الصحافة بين وقت وآخر. إنها أكبر تحدٍّ يواجه الإنسان والبيئة في مدينة تعز، جنوب غرب اليمن. فهناك توجد 4 مصانع ومحرقة قمامة تقليدية مفتوحة، إضافة إلى وجود كسارة أحجار تعمل بالجوار، وسط تجمع سكاني قد لا يمثل خطراً بقدر ما يعتبر كارثة حلت على أولئك السكان، لاسيما وأن أحد تلك المصانع للكيماويات.
لعل منطقتا “حذران” و”الربيعي” غرب مدينة تعز، نالهما النصيب الأوفر من تلك المخاطر والسموم المنبعثة باستمرار في الأجواء، بينما العديد من القرى المجاورة ما زالت تعاني الألم نفسه. وفي الربيعي وحدها، التي توجد بجوارها كسارة الأحجار، هناك أكثر من 30 مصاباً بالربو وتكسرات الدم.
وفي زيارة ميدانية إلى منطقتي “الربيعي”، و”حذران”، للكشف عن هذه الكارثة المزمنة؛ تم الكشف عن العديد من الضحايا، منهم تعرض للوفاة ومنهم مصابين بأمراض السرطان، إلى جانب العديد من الأطفال المصابون بعاهات وتشوهات خلقية.
أما كبراء السن (المسنون) فمصابون إما بالربو أو أمراض القلب، ليظل الخيار الوحيد لدى أهالي تلك المناطق هو أنك “تعيش مريضاً حتى الموت”. تتمنى “الأولى” أن تجد هذه القضية حيز اهتمام بحجمها لدى محافظ تعز شوقي هائل، وحكومة الوفاق، وإن تطلب الأمر تدخلاً رئاسياً.
المعاناة قصة لا تنتهي
وحدهما المعاناة واستمرار الألم ملازمان لحياة أهالي منطقتي حذران والربيعي، والقرى المجاورة لهما غرب مدينة تعز، جراء التلوث البيئي الذي تخلفه المصانع المحيطة بتلك المناطق.
أثناء هذه الزيارة الميدانية وجدنا أن منطقة حذران تحتل المرتبة الأولى من حيث تنوع عدد الإصابات، خاصة لدى الأطفال، حيث احتلت التشوهات الخلقية لدى الأطفال المرتبة الأولى من إجمالي نسبة الأمراض المستعصية المصاب بها أهالي المنطقة.
عشرات الأطفال مصابون بإعاقات دائمة لا تمكنهم من العيش بسلام، إما أن تجدهم معاقين كلياً أو جزئياً، أو مصابين بالتخلف العقلي أو السرطان. بينما المرتبة الثانية كانت من نصيب مرض السرطان والفشل الكلوي، بالإضافة إلى العديد من الحالات المصابة بـ”الغدد”.
بحيرة من المواد الكيماوية
يحيط بمنطقة “حذران” مقلب القمامة الكائن في مفرق شرعب، والذي يشتعل ليل نهار، ليبعث دخاناً أسود داكناً. المئات من حيوانات الأهالي تتغذى من مقلب القمامة، حيث كان له التأثير الأكبر في إصابة أهالي تلك المناطق بالعديد من الأمراض، إضافة إلى وجود “بيارة” مفتوحة أشبه بـ”بحيرة”.
هذه “البيارة” ليست بمجاري مياه، وإنما هي عبارة عن أسمدة ومواد كيماوية تأتي من الشركة اليمنية لصناعة السمن والصابون عبر أنابيب مدفونة في الأرض، حيث تبتعد تلك البحيرة عن الشركة بحوالي 100 متر، بالإضافة إلى أنه يتواجد في منطقة حذران مصنع للطلاء يبتعد عن مقلب القمامة بحوالي 30 متراً، كل ذلك كان له الدور الأكبر في خلق بيئة ملوثة لتنعكس على حياة الناس القاطنين في المنطقة.
الطفل عاصم عبده حسان، من أهالي قرية الكربة بمنطقة حذران، والبالغ من العمر 8 سنوات، يعاني من سرطان في الأمعاء. أهالي الطفل قالوا إنهم قاموا بمعالجته بعلاج كيماوي في صنعاء، بمبالغ زهيدة، مشيرين إلى أن حالته حالياً مستقرة نسبياً، حيث بدأ يتحسن نتيجة للعلاج.
إلى ذلك، الطفلة عصماء أحمد رسام، المجاورة للشركة اليمنية لصناعة السمن والصابون، البالغ عمرها 7 سنوات، هي الأولى من بين 5 أطفال جميعهم بصحة جيدة، لكنها أصيبت بورم في الدماغ، أفقدها البصر في العين اليمنى، حيث سبق لعصماء أن أخضعت لـ3 عمليات في الدماغ بالمستشفى الألماني بصنعاء.
التقرير الطبي لعصماء يقول إنها تعاني من ورم ضاغط على العصب البصري الأيمن والغدة النخامية، مما سبب لها فقدان البصر في العين اليمنى، وتابع التقرير أنه أجري لها عملية لاستئصال الورم في أغسطس 2007، حيث تحسنت بصورة ملحوظة، غير أن حالتها آلت إلى استخدام العلاج مدى الحياة وفحوصات كل شهرين، حسب توصيات استشاري الغدد الصماء.
والدة عصماء تشكو بمرارة أن زوجها عاطل عن العمل بعد فصله من الشركة اليمنية للطلاء والكيماويات في منطقة الربيعي، مضيفة أنها بواسطة إخوانها تقوم بدفع تكاليف علاج ابنتها كل شهرين بما يقارب 20 ألف ريال.
وأوضح المواطن منير عبده علي، من أهالي قرية الكربة بمنطقة حذران، أنه أصيب بمرض الفشل الكلوي، أثناء عمله كسائق مع الشركة اليمنية لصناعة السمن والصابون، منذ أكثر من 15 عاماً، وتحدث بمرارة أن راتبه لا يفي بمصروفات أسرته، مشيراً إلى أنه يضطر لصرف نصف الراتب شهرياً لشراء علاج له.
أما المواطن عبده ياسر صالح، الذي يعمل مزارعاً في المنطقة، فقد أصيب بفشل كلوي، حيث استؤصلت له إحدى الكليتين، بينما يعيش بكلية واحدة غير سليمة.
غانية سرحان قاسم، 35 عاماً، تسكن بجوار مقلب القمامة في مفرق شرعب. تقول فاطمة إنها مصابة بفشل كلوي منذ 5 أشهر، وقالت إن زوجها يعمل في زراعة الأرض، بينما هي تعمل ربة بيت، مشيرة إلى أنها تجري غسيلاً كلوياً مرتين في الأسبوع، الأمر الذي قالت إنه يشكل كلفة باهضة على أسرتها.
وأوضحت غانية أن زوجها قام ببيع قطعة من الأرض لمعالجتها في الخارج، بدون أية مساعدة من قبل الحكومة أو المحافظة، كون أمراض أهالي تلك المناطق ناتجة عن التلوث البيئي في المنطقة، حد وصفها.
من جهتها، أوضحت المواطنة خيرية محمد علي، أنها مصابة بمرض في الغدة الدرقية، مشيرة إلى أنه أجريت لها عملية قبل حوالي شهرين، وهي الآن خاضعة للعلاج.
“حذران”.. معاقون لا يجدون من يرعاهم
حافظ حسان قائد، 12 عاماً، والقاطن في قرية “الشويهية” بمنطقة حذران، معاق كلياً. التقارير الطبية الخاصة به تقول إنه لا يوجد له أعصاب نهائياً. تحدث أخوه الأكبر أنه قام بإسعافه إلى جميع المرافق الحكومية.
إلا أنه لم يستجب للعلاج، مشيراً إلى أن والده كان موظفاً في الشركة اليمنية لصناعة السمن والصابون، حيث توفي وهو متقاعد، ولا يستلم أي مبالغ مالية من بعد وفاة والده، غير أنه تم توظيف أحد إخوانه مكان والده.
أما نجلة عبدالله عبده، البالغة من العمر 8 سنوات، ترتيبها الرابعة من بين 6 أطفال، مصابة بتخلف عقلي، حيث تعاني من تشنجات عصبية متواصلة، يقول والد الطفلة، وهو أستاذ في مدرسة الأنوار بالملتقى حذران، إنه قام بمعالجتها في العديد من المستشفيات بالمحافظة، إلا أن حالتها لم تستجب للعلاج.
وأشار إلى أن ابنته حالياً تستخدم علاجاً يسمى “تيجراب”، وهو عبارة عن مهدئ للتشنجات العصبية التي تنتاب ابنته ما بين لحظة وأخرى، مناشداً محافظ تعز التدخل لعمل حل لابنته والعديد من أطفال المنطقة المصابين بأمراض مختلفة.
الطفلة نهاد شوقي حسان، عمرها عامان فقط. لم تستمتع سوى بحاسة السمع فقط، بينما هي معاقة حركياً، وغير قادرة على الكلام.
إلى ذلك، فالطفلة فردوس سعيد غالب، التي تبلغ من العمر 5 سنوات، معاقة حركياً فقط، وتقول أمها إن والدها غير قادر على معالجتها على الإطلاق، كونه يشتغل “حمالاً” مع أحد التجار في مفرق شرعب، مشيرة إلى أنه أحياناً لا يقدر على توفير لقمة العيش لأطفاله.
تربة غير صالحة للزراعة
يقول أهالي منطقة حذران إن التربة الزراعية في المنطقة غير صالحة للزراعة، وذلك لما أحدثته بيارة تجميع مخلفات شركة السمن والصابون، مشيرين إلى أن البيارة تحوي مواد كيميائية سامة تعمل على تلوث التربة في المنطقة، إضافة إلى أن جميع مجاري مدينة تعز تمر على أراضيهم، حيث تتجمع مياه المجاري في حاجز قريب من المنطقة يسمى “سد العامرية”، ومن ثم تنطلق المياه منه لتمر على أراضي منطقة حذران والدعيسة، وصولاً إلى منطقة تسمى “الحمام”.
“البلهارسيا” يفتك بجميع الأهالي
جميع أهالي منطقة حذران تقريباً مصابون بمرض “البلهارسيا”، حيث أصبح ذلك المرض ليس خطيراً بالنسبة لهم، إنما عادة من عادات وتقاليد المجتمع اكتسبوها منذ صغرهم، ليظل رفيقهم إلى أن يقضوا نحبهم.
أطفال وشباب وشيوخ ونساء مصابون بمرض “البلهارسيا”، بينما مكتب الصحة في المحافظة لا يعير ذلك المرض أي اهتمام، حيث لا يوجد أي مركز صحي في المنطقة، لكونها منطقة موبوءة. ويناشد أهالي منطقة حذران مدير مكتب الصحة في المحافظة النزول إلى المنطقة للنظر إلى معاناتهم من شتى أنواع الأمراض.
عاهات مستديمة
منطقة الربيعي محاطة بمصنعين وكسارة على شكل مثلث، فالمصنع الوطني للطلاء والكيماويات في منطقة الربيعي كان له الدور الأكبر في تلويث أجواء المنطقة، يقابله كسارة تعمل ليل نهار، بالإضافة إلى تواجد مصنع للشمة السوداء. في هذا المصنع ما يقارب 15 عاملاً، حميعهم مصابون بالتهابات الجهاز التنفسي، وغير مثبتون رسمياً مع المصنع منذ أكثر من 10 سنوات. والحصيلة جراء هذا كله العديد من الوفيات بمرض السرطان، إضافة إلى إصابة العديد من الأطفال بتشوهات خلقية، أقعدتهم الفراش، فيما العديد من المسنين مصابون إما بمرض “الربو” أو أمراض القلب.
ولقد توفي العشرات من أهالي منطقة الربيعي وهم مصابون بعدة أنواع من أمراض السرطان، حيث تنوع المرض ما بين سرطان في الدم أو الكبد، أو سرطان الثدي لدى النساء. كما أن هناك العديد من الحالات تعاني من مرض “الربو” و”الكبد”، فيما أكثر من 30 حالة مصابة بتكسر في الدم.
أطفال يبحثون عن أمل
الطفل عبدالكريم محمد الخليدي، أحد الأطفال الذين يريدون الإحساس بالحياة، إنه يريد أن يعيش قليلاً من المرح مع إخوانه، عامان من عمره طريح الفراش، ووالده يعمل في مصنع الشمة بنفس المنطقة. يروي أن ابنه مصاب بضمور في الدماغ، لم يعلم به إلا بعد 5 أشهر من ولادته.
مشيراً إلى أنه طاف به العديد من مستشفيات المحافظة، إضافة إلى عدد من مستشفيات العاصمة، إلا أنه قال إن درجة الاستجابة لا زالت منعدمة لدى الطفل.
وأوضح الخليدي في حديثه أن الأطباء أبلغوه أن سبب الإصابة قد يكون نتيجة لتلوث الأكسجين لدى الأم قبل الولادة أو أثناء الولادة، منوهاً إلى أنه عندما أوضح للأطباء أن المنطقة التي يقطنون فيها محاطة بالعديد من المصانع، رشح معظم الأطباء أن السبب الرئيسي للحالة التي يعانيها طفله هو عامل التلوث البيئي في المنطقة.
الطفل محمد أسامة عبدالسلام الجميلي، مرت 5 سنوات من عمره لا يعرف ما الذي يدور حوله، حيث يقول والده إنه يعاني أيضاً من المرض نفسه “ضمور في الدماغ”، منذ ولادته، مشيراً إلى أنه قام بإسعافه إلى أكثر من مرفق صحي في المحافظة، إلا أن درجة الاستجابة لا زالت بسيطة جداً لديه.
أما الطفل إبراهيم عبده سيف، التابع لمنطقة الربيعي نفسها، فلا زال معاقاً منذ 4 سنوات، حيث إنه غير قادر على الحركة تماماً.
ما يراه ذوي الاختصاص
من جهته، أكد الاستشاري في جراحة القلب والصدر الدكتور عبدالقادر محمد الفاتش، القاطن في نفس المنطقة،” أن أي مصانع تتعامل مع المواد الكيميائية ينتج عنها بيئة ملوثة وأضرار صحية”.
واشار إلى أن أول ما يصيب المواطن من خلال الغازات المنبعثة من تلك المصانع، هو أمراض الأجهزة التنفسية، وانسداد الغدد اللمفاوية، وأورام البلعوم، نتيجة للتحسس من تلك المواد.
وأوضح الفاتش أنه نتيجة لتسرب نفايات تلك المصانع إلى الأرض، فإنها تختلط بمياه الآبار، مما يؤدي إلى تعطيل عمل الجهاز الهضمي، وهذا ما هو حاصل في المنطقة. مؤكداً على أن تشوهات الأطفال والإصابة بأنواع السرطانات، إضافة إلى الفشل الكلوي لأغلب مواطني المنطقة، ناتجة عن التلوث البيئي في المنطقة،
الفاتش نوه، إلى أن تزايد التشوهات الخلقية لدى الأطفال في المنطقة ناتج عن أمراض مكتسبة عند الآباء، مما يجعل الجيل القادم ضعيفاً جداً.
وطالب الدكتور الفاتش برفع جميع المصانع الكيماوية في المنطقة، وخاصة التي قال إنها تدفن فضلاتها في الأرض، مشيراً إلى أن ذلك سيعد خدمة إنسانية وأخلاقية لجميع أهالي مناطق “الربيعي وحذران والدعيسة”، خاصة وأن المستوى المعيشي لأهالي تلك المناطق ضعيف جداً، حيث لا يستطيعون مقاومة تلك الأمراض.
وقال الأمين العام لمديرية التعزية علي عبدالسلام الجميلي، عندما قامت الصحيفة بسؤاله عن الأضرار الناتجة عن تلوث البيئة في منطقتي حذران والربيعي، إن هناك أضراراً كثيرة ومتنوعة لدى أهالي المنطقتين، بما في ذلك السرطانات، وانتشار أنواع غير معروفة من البعوض في تلك المناطق.
معللاً سبب ذلك “بتكدس أطنان من القمامة في منطقة حذران، إضافة إلى تواجد المصانع الكيماوية في المنطقة”.
وأشار الجميلي إلى أنه يفترض أن تكون القمامة بمناطق صحراوية بعيدة عن السكان، وهو الأمر الذي قال إنه سيطرحه على طاولة محافظ تعز شوقي أحمد هائل، خلال الأيام القادمة.
وسبق أن لاقت عملية التلوث البيئي في منطقتي حذران والربيعي، استنكاراً واسعاً من مختلف الأوساط السياسية والاجتماعية، إلا أن القيادات المتعاقبة على المحافظة لا تزال غير مكترثة لما يحدث هناك.
وطالب جميع أهالي المنطقتين محافظ تعز بالنظر إلى مأساتهم، والعمل لما من شأنه تخفيف الضرر الناتج عن التلوث البيئي في المنطقة، وذلك بداية بنقل مقلب القمامة من وسط منطقة حذران.
كما طالبوه بالتكفل بعلاج المصابين بشتى أنواع الأمراض التي تسببت فيها عملية التلوث البيئي، محملين المحافظ ما سيؤول إليه وضع المنطقة خلال الأيام القادمة.
تبدو المشكلة الآن، كارثة بيئية مزمنة في الطرف الغربي لمدينة تعز. وفي كل مرة تتناولها الصحافة، يخرج مسئول حكومي لا يعرف ما الذي يعنيه التلوث البيئي، ليسقط واجب الدولة برد مقتضب أو هجوم على الصحافة، أو توضيح متحاذق.
وحدهم السكان يقعون ضحايا أخطار التلوث البيئي، ويدفعون ثمن الآثار الناتجة عنه، بيد أن أصواتهم لا تسمع، حتى وقفاتهم الاحتجاجية أمام دوائر السلطات المحلية قبل سنوات، لم تلقى اية استجابة، ولم يكترث لها المسئولون.
* عن صحيفة الأولى، الصادرة في صنعاء.