حلم أخضر | أحمد سيف المغلس – الجمهورية
هنا وبعيداً عن صخب الحياة الاسمنتية وضجيج الآلات والمركبات يمكنك أن تأوي إلى ظل ظليل أو تركض في مغتسل البحر أو تقلب وجهك في السماء أو تقرأ في كتاب الأيام أو تقلب صفحات العمر أو تنبش في ذكرياتك القديمة. ليس المهم ما تفعله أو ما تقوله المهم هو أن تجد نفسك وتهتدي إلى ربك وتفرح من أعماق قلبك، فأنت في “وادي المُلك”.
أن تكون في وادي “الملك” فهذا يعني أنك في الوادي الذي لطالما هفت إليه القلوب وتوافدت عليه الملوك وبخاصة من يعرفون كيف يقضون أوقاتهم وكيف يدخلون الفرح والسرور إلى أنفسهم وبغض النظر عن سبب تسمية وادي الملك بهذا الاسم والتي يدور حولها لفظ كثير إلا أن المهم هو أن هذه التسمية صارت لصيقة بهذا المكان وجزءاً لا يتجزأ منه.
فردوس من نوع آخر
هنا في وادي الملك الواقع على مسافة تبعد 20 كم عن ميناء المخاء التابع لمحافظة تعز جنوب غرب اليمن، ترتدي الطبيعة أجمل حللها وتتزين بأروع الجواهر الطبيعية. العطاء والإبداع هما سيدا المكان والوصول إلى هذا الفردوس غاية ما يتمناه المرء وهو يعبرُ الطريق الساحلي الممتد على طول الساحل الغربي.
أروع ما في الأمر أن تشعر بأنك قادم من عالم إلى عالم آخر مختلف وأن المكان ولا شيء غير المكان هو من يستقبلك عند مدخل الوادي ليأخذ بيدك منه إليه وإلى أجمل ما فيه. إنها لحظة قد لا يتذوقها الكثيرون ممن لا صلة لهم بالماء والخضرة أو حتى الوجه الحسن..لحظة مدهشة مبدعة حين يشع وجه المكان ويلين لك جانبه حين تصافحك يد الطبيعة وتتحدث معك دون محاباة ودون مجاملات حين يستقبلك كل شيء مرحبا بك سعيداً بقدومك حين تشعر أنك إنسان بإمكانه أن يؤنسن كل شيء من حوله وينفخ فيه روح الحياة، حتى المساكن المبنية من القش تشعرك على الفور أنك بين أهلك وعشيرتك بحيث لا تكاد تعرف الفارق بين قلوب الناس وبين مساكنهم البسيطة والمتواضعة فكلاهما لين ورقيق وكلاهما مقتنع بواقعه وراض بقدره، القناعة والرضا من أبرز ما يميز وجوه الناس هنا ونظراتهم الحانية.
ملكة جمال النخل
أشجار النخيل بقاماتها السامقة وظلها الوارف وعطائها اللامحدود تغري القادمين إلى رحاب هذا الوادي بحيث لا يملك الشخص مقاومتها أو صرف نظره عنها…شيئاً فشيئاً يجد الواحد نفسه وقد تماهى مع روعة المكان ودخل في عناق حار مع غابات النخيل بشكل تبدو معه كل نخلة أجمل من الأخرى وكأن الشخص هنا يقف أمام عرض مبهر لآلاف المتسابقات من أشجار النخيل.
كل نخلة تريد أن تحظى بلقب ملكة جمال النخل وياله من عرض مدهش وبديع سيما وأن مقاييس الفوز هنا تختلف عن مقاييس الفوز بلقب ملكات الجمال في عالمنا الإنساني الفوز هنا مرتبط بمقدار ما تكتسبه النخلة من حلل لا بمقدار ما تخلع من ملابس مرتبط بقدرتها على العطاء لا بقدرتها على الإثارة مرتبط بمدى اقترابنا تجاهها لا بغزارة غرائزنا.
أشجار النخيل هنا تحكي قصص الإنسان ورغبته في جعل الحياة أفضل وأجمل تشبع فضوله في الحصول على الهدوء والتأمل، توفر له عليل الهواء وتلبي حاجته الدائمة إلى الغذاء.
النخل هنا، باسقات لها طلع نضيد” جميلات لها وجه فريد إنها على ما يبدو كنز من كنوز وادي الملك إنها بكل تأكيد جنة من جنان الله على الأرض مع أن هناك من يبدي قلقه الكبير على هذه الخضرة الدائمة والثروة الهائلة فمن ناحية ليس هناك اهتمام أو توسع مدروس فيما يتعلق بغابات النخيل ومن ناحية أخرى ثمة مخاوف يبديها البعض من توسع بعض الأطماع والمنازعات أو تكرار حدوث حرائق كما حدث ذات يوم بالقضاء على هذه الغايات بجانب الإشارة هنا لمحدودية الاستعدادات لمواجهة مثل هكذا حوادث أو احتواء آثارها بشكل سريع.
شواطئ من ذهب
عبدة المال هم الذين يعتقدون دائماً ان الثروة هي مقدار ما يمتلكونه من عملات ورقية أو يختزنونه من ذهب ومجوهرات..لا يعرفون مثلاً أن قضاء لحظات في شاطئ يطوقه السحر مثل شاطئ وادي الملك هو أغلى وأكثر أهمية من كل ثرواتهم ومدخراتهم.
إنه هبة الله للفقراء والمتعبين والسائحين في الأرض بل هو هبة لكل باحث عن لحظات الراحة بعيداً عن زحمة الباحثين عن المتاعب، هبة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، إنه بحسب تأكيد البعض أجمل شواطئ اليمن وأكثرها أماناً وروعة..
ثمة مفارقات هنا تجعل المكان ذا خصوصية : الوادي المطل مباشرة على البحر، الماء العذب في مقابل الماء المالح، الخضرة التي تملاً المكان في مقابل زرقة الماء، الأشجار الكثيرة والكثيفة في مقابل الأمواج الغزيرة والمتكسرة جني التمور في مقابل صيد الأسماك.. أشياء كثيرة تضفي على المكان تنوعاً وحيوية وأسئلة أكثر حول دور الجهات ذات العلاقة وغيابه في ظل هذا الحضور وهذا التفرد.
سياحة بامتياز
بحسب بعض المصادر فإن سكان هذا الوادي لا يتجاوز عددهم الألف نسمة لكنهم يحظون بطبيعة محيطة فاتنة وفريدة ومناظر خلابة لا يحظى بها مئات الآلاف غيرهم ممن يسكنون مناطق أخرى لا تقل مساحة عن منطقتهم ناهيك عن نشاطهم المتركز في تشقير النخيل وجني التمور بجانب صيد الأسماك الذي يعد من بين أنشطتهم ومصادر أرزاقهم بحيث تخبرك قواربهم البسيطة الزاهية أو القادمة المحملة بالأسماك أو بالسياح الراغبين في الوصول بحراً إلى وادي الملك أو التنزه على مقربة من الشاطئ.. ان العديد من أهالي المنطقة لديهم الرغبة الكاملة في النهوض بمنطقتهم وتحويلها إلى مركز اقتصادي أو مزار سياحي يضاهي شواطئ وقرى وبلدان عالمية سيما إذا توفرت المناخات المساعدة ووجد من يأخذ بيد هؤلاء ليكون لهم دورهم المشهود في تعزيز واقع السياحة والاستثمار فالمنطقة زراعية بامتياز وسياحية بامتياز وكذلك اقتصادية بامتياز المهم هو توفر الإرادة من الجهات ذات العلاقة والرغبة من أصحاب المال والأعمال ذلك ان استغلال قدرات أبناء المنطقة وتنمية قدراتهم ومهاراتهم أفضل بكثير من تحويل بعضهم إلى متسولين يشوهون وجه المكان ويقلقون راحة الزائرين إلى المنطقة من اليمنيين أو الأجانب.
ظبي تهامة المقتول
هل تحول وادي الملك من وادٍ للحياة إلى وادٍ للموت كما يطرح البعض؟ السؤال يبقى قائماً بعد أن فقدت آثار الظبي التهامي عن المكان.
فالغزال التهامي الذي كان بحسب تأكيد الكثيرين من الحيوانات المألوفة للسكان، اختفى عن الأنظار ولم يعد له وجود.. نعم الضباء والغزلان التي ألهمت الشعراء وآنست العشاق وصاحبت الرعاة وغازلت الصيادين لم يعد لها وجود في وادي الملك وفي المنطقة المحيطة عموماً.. لقد اختفت منذ سنوات طويلة اختفت بفعل طمع البعض ورغبتهم الجامحة في تدمير البيئة وتنوع أشكال وصور الحياة فيها من حيوانية ونباتية وغيرها اختفت دون أدنى إحساس بأن الغزلان وغيرها من الحيوانات شريك أساسي في الحياة على الأرض ومن حقها العيش والبقاء في المكان الذي ولدت فيه وكذلك النمو والتكاثر.
اختفت الغزلان وتوارى صوتها لأن وجوه الصيادين وبنادقهم التي لا تكف عن الصراخ كانت هي الحاضرة على مدى سنوات دون وازع من ضمير أو رقابة أو محاسبة من أحد.. اختفت الغزلان والضباء التهامية وبقي الصيادون الفخورون بمغامراتهم وبطولاتهم الوهمية.. ليتهم أدركوا أن بقاء الغزلان كان أجدى من بقائهم لأنه كان سيضفي على المكان روعة لم يستطيعوا هم إضفاءها.. طيور البجع والنورس الفضي وغيرهما من طيور المنطقة مهددة هي الأخرى بالزوال لأن هواة القنص والاصطياد لا يزالون مصرين على تدمير البيئة المحيطة وتنوعها وثرائها بدلاً من الاهتمام بها ورعايتها وحتى حمايتها.