fbpx

داخل الأرض المنكوبة

مياه المجاري تروي مزارع الرحبة بصنعاء

• تقرير: نائف حسان *

(5 فبراير 2013) عندما اقتربنا من مطار العاصمة صنعاءـ تذكرت الشكاوى القديمة والمتكررة من الرائحة الكريهة لمياه المجاري، التي تستقبل من يصل البلاد.

لم أجد هذه الرائحة الكريهة، ولا أستطيع تذكرها وأنا أحاول الآن البحث عنها في زياراتي المعدودة للمطار. بيد أن الزميل محمد مسعد كان يتحدث عما هو أسوأ.

قبل يومين؛ بدأ محمد العمل في تحقيق صحفي عن مجاري العاصمة فعاد بانطباع مخيف. أخذ محمد يُعيد الحديث عن الكارثة البيئية التي شاهدها في زيارته السابقة لـ”الرحبة”، فتذكرت أن الجميع كانوا يوقفون احتجاجاتهم عند الاعتراض على الرائحة الكريهة فقط.

عندما بدأ محمد، الشهر الماضي، العمل في هذه القضية كانت الفكرة لدينا تدور حول الرائحة الكريهة المنبعثة من مكان تصريف مجاري العاصمة صنعاء، غير أنه عاد إلينا بخوف حقيقي: أهالي “الرحبة” يستخدمون المجاري غير المعالجة في ري مزروعاتهم التي يبيعونها لنا نحن سكان العاصمة.

أدرك الآن أن كثيرا من المجتمعات تتوقف في كثير من مشاكلها عند ما هو سطحي.كانت العاشرة صباحاً عندما وصلنا إلى “الرحبة”. 

ري مزارع (الرحبة) صنعاء بالمجاري/الصورة: صحيفة الشارع

تركنا مطار صنعاء على يسارنا، وخلال نحو عشر دقائق كنا في المنطقة. سبق للزميل محمد مسعد زيارة المنطقة لهذا استدرك كثيراً في شرح وتوضيح حجم الكارثة.كانت لدي فكرة مسبقة عن المنطقة، غير أني لم أكن أتوقع أنها ستكون بهذا الوضع الكارثي.

موالدات للري بمياه المجاري

كان صباحاً عادياً، وكانت العاصمة صنعاء مشوشة، ومثقلة بالغبار. حاولت تأمل المدينة وفي ذهني الكارثة البيئة التي تكبر في طرفها الشمالي.

بعد المطار مباشرة يستقبلك جسر صغير يأخذك إلى منطقة فسيحة يقطعها خط إسفلتي. بعد دقائق؛ تستقبلك نقطة أمنية، وقبلها إلى اليسار خط إسفلتي يؤدي إلى إدارة تصريف المخلفات، ثم إلى بوابة خلفية للمطار. 

واصلنا السير رغبة في التنقل داخل المنطقة المنكوبة بالمجاري. بعد النقطة الأمنية انعطفنا يساراً. بدأنا التوغل في الأرض المنكوبة. 

بعد دقائق طلب مني محمد التوقف إلى اليسار مفضلاً البدء من تتبع أول ظهور للمجرى العريض القادم من إدارة تصريف المجاري.

المجرى عريض، وعندما وقفنا على أول ظهور له؛ شاهدنا تدفقه المقرف برائحة كريهة. بجانب طريق فرعية؛ بدأ المجرى عريضاً إلى حد ما بما يسمح للمولدات المرصوصة على حافته الترابية من شفط مياه المجاري، عبر “ليات” بلاستيكية مرتبطة بشبكة ري تنقل مياه المجاري إلى المزارع المجاورة، والبعيدة.

بدت أنابيب المولدات الممتدة إلى داخل قناة المجاري كمشهد سُريالي مستعصي على التصديق، بيد أن أصوات المولدات أضفت على المشهد بعداً هزلياً مصحوباً بصدمة يشوبها الفزع. تنتج مزارع الأهالي خضروات نأكلها نحن سكان العاصمة.

والمعنى أنه يُعاد نقل مخلفاتنا إلينا كي نأكلها. تشعر هنا بغثيان من العاصمة صنعاء، وتدرك إلى أي مدى تُسهم القذارة في الحياة الإنسانية.

يستفرغ المجرى قاذورات تدفقها لا يتوقف. قاذورات كسلى تمر دون ضجيج سوى هدير عمليات استثمارها من قبل مولدات الشفط.

إلى الجنوب الغربي من أول ظهر لقناة المجاري؛ تناثر، إلى الداخل، منازل يقطعها طريق ترابي. بالقرب من القناة؛ كان رجل مسن يرعي عددا من الماعز في أرض يبدو أنها حُصدت حديثاً.

أخذ حضور الرجل طابعاً محايداً متماهياً مع حالة الخمول التي بدت لي كما لو أنها محلقة على المنطقة. عندما أخذنا نتأمل المنطقة؛ وصل عدد من الأطفال يرتدون زياً مدرسياً. كانوا عائدين من المدرسة عندما استوقفناهم للسؤال عما إذا كان هناك مجرى آخر للمجاري غير هذا الذي نقف عليه.

موالدت مياه بمنطقة الرحبة تشفط مياه المجاري لري الخضار/الصورة: صحيفة الشارع

أجابوا بالنفي، وأكدوا استخدام المجاري في ري المزارع. أخذوا يتفحصوني، وزميلي محمد، باندهاش مصحوب بخجل طفولي. يدرك هؤلاء الأطفال حجم الكارثة التي يعيشون فيها، مع أسرهم.

قالوا إن مياه الشرب يتم جلبها إلى المنطقة من خارجها، وهو الأمر الذي أكده كل من التقينا بهم من الأهالي. تأملت وجوه هؤلاء الأطفال فشعرت أن “بداخلهم يندرج، كفضاءات، رجال أكبر سناً”.

وإذا ما استعرت تعبيرا آخر لفيرناندو بيسوا؛ سأقول إنني شعرت أن لدى هؤلاء الأطفال “حزن ذا صوت عالي”.عرف هؤلاء الأطفال أنفسهم في حياة عامة متعايشة مع ساقية المجاري.

فكرت بهذا وشعرت بالحزن على طفولتهم، وحياتهم التي سُرقت منهم ووضعت رهينة قناة المجاري. عدنا إلى السيارة، فيما اتجه هم نحو منازلهم القريبة.لفت انتباهي أن وجوه هؤلاء الأطفال تميل إلى الصفرة، وتغلب عليها طبقة من النمش.

وعندما توغلنا في المنطقة تأكدت أن وجوه جميع الأهالي، الذين شاهدتهم هنا، تأخذ ذات الملمح: مطبوعة بالصفرة والنمش. لا أريد أن أجازف، لكن شعرت أن المجاري أثرت حتى على ملامح الناس.

تخطينا حالة الغثيان، وواصلنا التوغل في المنطقة المنكوبة. سرنا بالسيارة محاولين تتبع سير القناة المكشوفة للمجاري.أغلب الأهالي يعملون في الزراعة، باستثناء السكان القادمين من خارج المنطقة، وهم قلة.

حقول (الرحبة) بصنعاء ترويها مياه المجاري – تصوير: محمد دماج

مررنا بمساكن صغيرة أخبرني محمد أنها تتبع جنودا هم أكثر المتضررين من المجاري لأنهم لم يتمكنوا من استثمارها في الري بسبب عدم امتلاكهم لأراضي زراعية.

وتقتضي الإشارة هنا إلى أن المجاري حدت، بشكل كبير، من التوسع العمراني للعاصمة باتجاه المطار و”الرحبة”.

سلكنا، مشياً على الأقدام، طريقا ترابية قاصدين 3 نساء شاهدنهن يعملن بانهماك في أرض زراعية قريبة.كن منهمكات في جز برسيم، فيما يتولى شاب الإشراف على ري أجزاء من المزرعة.

تقدمنا نحوه فشاهدنا مياه المجاري تتدفق على الأرض بلونها الداكن المائل إلى السواد. قسمت الأرض إلى مستطيلات صغيرة كانت ثلاث منها قد غمرت بمياه المجاري. 

في المستطيلات التي لم تغرها المجاري بعد؛ يُمكن ملاحظة كيف أن لون التربة قد تغير. الرائحة الكريهة حاضرة رغم بعد هذه الأرض عن القناة المكشوفة للمجاري. ابتسم الشاب وأكد ما هو واضح. 

غير أنه قال إنه يستخدم مياه المجاري في ري البرسيم، نافياً استخدامها في ري “الطماطم” و”البيعة”، وبقية المزروعات التي اعترف أن هناك كثيرا من أهالي المنطقة يستخدمون المجاري في ريها.

كان يتحدث بنوع من الخجل. قال إن لديه مولد خاص ينقل مياه المجاري إلى أرض أسرته عبر “بيبات”. 

وبالقرب منه شاهدنا هذه المياه وهي تتدفق من “بيب” مدفون تحت الأرض. كان هذا الشاب خجلاً، والنمش ظاهراً على وجهه.

الرحبة شمال صنعاء كارثة صحية وبيئية/ الصورة: جريدة الشارع

كانت “الرحبة” منطقة مزارع للعنب وفواكه أخرى، منطقة فسيحة ذات تربة خصبة، بيد أنها أصبحت اليوم منطقة طافحة بالمجاري والعفن. لقد أصبحت منطقة ميتة.

فرضت المجاري نفسها على المناخ العام للمنطقة، وأشعر كما لو أنها “تغلغلت في الجزء الباطني من الأشياء” يبدو الناس هنا كما لو أنهم اعتادوا العيش برتابة مع القناة المكشوفة للمجاري.

الحياة متكاسلة كما لو أنها تطبعت بطابع التدفق الكسول للمجاري داخل القناة المكشوفة. يقول بيسوا إن “كل ما يحيط بنا يتحول إلى جزء من ذواتنا”، ثم “تتحول إلى عاطفة ملحقة بالخيال”.

خطر لي الآن أن الناس هنا فقدوا حتى الطموح بالتحرر من قذارة المجاري، رغم إدراكي أن كثيرا منهم اتجهوا نحو استثمارها في ري المزارع.

تعايش أهالي “الرحبة” مع ساقية المجاري. وبدأ، منذ أكثر من 15 عاماً، كثير منهم في تطويع هذه الكارثة للتخفيف من فداحتها.

يتذكر عدد منهم كيف بدأ البعض، قبل أكثر من 12 عاماً، في استخدام المجاري في ري المزارع. كانت النتيجة مشجعة لغالبية الأهالي، فالمزارع أعطت عمليات حصاد متكررة، والتكلفة المالية أصبحت أقل.

توغلنا أكثر في المنطقة الموبوءة وصولاً إلى بحيرة صغيرة تجمعت فيها مياه المجاري. أصوات المولدات الكهربائية كانت مرتفعة. عملية ري المزارع جارية على قدم وساق.

—————————–

* المصدر: صحيفة “الشارع” اليومية الصادرة في صنعاء.

تعليقات
Loading...

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط
error: Content is protected !!