عبر العصور، لم تضعف اليمن إلا في الفترات التاريخية التي قل فيها الاهتمام بالزراعة. وهو ما يؤكده ازدهار القطاع الزراعي، خلال حقبة ذهبية من تاريخ اليمن الحديث، إليكم ما حدث بالضبط:
حلم أخضر (خاص) تقرير: محمد الحكيمي
قبل 4 عقود، وقبل اكتشاف النفط في اليمن، كانت الزراعة تشكل أهم موارد الدخل الوطني للبلاد، وكان القطاع الزراعي هو العمود الفقري للاقتصاد الوطني. كانت الزراعة تعد أكبر الأنشطة الاقتصادية في استيعاب السكان، إذ كانت نسبة المشتغلين في القطاع الزراعي اليمني أكثر من 70 % من اجمالي القوة العاملة في البلاد. حيث كان يعيش في المناطق الريفية أكثر من 88 % من السكان.
في سبعينات القرن الماضي، أدرك اليمنيون أن قطاع الزراعة، هو القطاع الأساسي الذي لا يتأثر كثيراً بالتقلبات والعوامل الخارجية والدولية، كما هو علية الحال في المصادر الاقتصادية الأخرى كالنفط، والسياحة، وغيرها.
لكن انخفاض نسبة الأراضي المزروعة بالمقارنة مع المساحة الكلية لليمن، شكلت احدى خصائص القطاع الزراعي في الجمهورية العربية اليمنية، حيث كانت مساحة الأراضي المزروعة سنوياً تقدر بحوالي 1,5 مليون ونصف هكتار من مجموع المساحة الكلية والتي تقدر بنحو 20 مليون هكتار.
أي ان المساحة المزروعة بشكل منتظم لم تكن تشكل أكثر من 7,5% من المساحة الكلية للجمهورية العربية اليمنية (آنذاك). في حين أنه كان يوجد حوالي 2 مليون هكتار من الأراضي الهامشية التي تزرع كل 4 أو 5 سنوات اعتماداً على كمية الأمطار. طبقاً لدراسة بحثية صدرت في العام 1983.
الزراعة: 50% من الناتج الاجمالي
كانت الجمهورية العربية اليمنية التي تصفها التقارير الدولية بأنها من أقل الدول النامية نمواً في أوائل السبعينات، قد قطعت شوطاً كبيراً في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية والزراعية في المدن والارياف، حيث حقق الناتج المحلي الإجمالي معدل نمو قدره 7% سنوياً، خلال فترة تنفيذ البرنامج الإنمائي الثلاثي من 1974 حتى 1976″، في حين أنه بلغ نسبة 6% سنوياً خلال فترة تنفيذ الخطة الخمسية الأولى من 1976 الى 1981.
وتشير دراسة قديمة حول تقييم “تجربة الجمهورية العربية اليمنية في التنمية الريفية” للدكتور ناصر العولقي، المنشورة في مجلة (دراسات يمنية) العدد 11 مارس 1983، الى إن مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي كانت في الفترة 1972-1974 تتراوح بين 50 الى 55 %. ثم انخفضت مساهمة الزراعة بالناتج المحلي الإجمالي الى 44% خلال الفترة 1978-1979. ثم وصلت الى حوالي 30 % في الفترة 1980-1981. وفقاً لدراسة العولقي.
وبحسب تلك الدراسة، اعتمدت الزراعة في الجمهورية العربية اليمنية في معظمها على مياه الأمطار، حيث كانت الرقعة الزراعية التي تعتمد على الأمطار تبلغ حوالي 84% من مجموع الرقعة الزراعية بالبلاد، ذلك أن المياه الجوفية والسطحية لا تكفي في ذلك الوقت الا لزراعة نحو 16% من الأرض الصالحة للزراعة.
كان النمط الزراعي في اليمن الشمالي خلال تلك الحقبة، يتصف بسيادة محاصيل الحبوب، حيث انتاج الحبوب مكان الصدارة سواء من حيث المساحة المزروعة أو من حيث حجم الإنتاج.
كانت مساحة زراعة الحبوب تشغل نسبة 80% من المساحة المزروعة في البلاد. وتشكل الذرة الرفيعة المحصول الأساسي حيث بلغ انتاج الذرة والدخن في العام 1975-1976 حوالي 785 ألف طن، وهو ما يعادل نسبة 78% من مجموع انتاج الحبوب في نفس السنة. في حين بلغ انتاج الذرة في العام 1981 حوالي 577 ألف طن، ما يعادل نسبة 75% من مجموع انتاج الحبوب لتلك السنة.
انشاء المؤسسات لدعم الزراعة
بحسب وزارة الزراعة والري، تم إنشاء أول محطة للبحوث الزراعية أوكل لها إجراء البحوث في المجال النباتي في العام 1973، والقيام بتدريب المرشدين الزراعيين لتلبية الاحتياجات من المرشدين المؤهلين للتنمية الريفية. وأنشئ مشروع وادي زبيد، وكان من مهامه إجراء البحوث الزراعية الخاصة بتلك المنطقة، وتدريب المرشدين الزراعيين لها. وقد أنشأت الدولة آنذاك معاهد زراعية ثانوية في مناطق إب ووادي سردد، وباشرت مهمة التدريب الزراعي.
وبعد سنتان من انشاء محطة البحوث الزراعية، تم إنشاء بنك التسليف الزراعي في العام 1975، برأسمال قدرة 100 مائة مليون ريال. كما تم انشاء المؤسسة العامة للحبوب سنة 1976. ومع تعاظم وازدهار الحركة التعاونية في اليمن والتي انطلقت في العام 1972، وتكللت بقيام الاتحاد العام لهيئات التعاون الأهلي للتطوير في العام 1977. وفي ظل مبادرات السكان في العمل التنموي، قامت الدولة في العام 1979، بإنشاء بنك التعاون الأهلي للتطوير برأسمال قدرة 100 مليون ريال. وفي العام 1982 تم إنشاء بنك التسليف التعاوني والزراعي برأسمال قدرة 300 مليون ريال، كنتيجة لدمج بنكي التسليف الزراعي، وبنك التعاون الأهلي للتطوير.
كما قامت الدولة، بإنشاء الهيئة العامة للبحوث والإرشاد الزراعي، الواقعة في محافظة ذمار، تم تأسيسها في العام 1983، وأصبح لها –لاحقاً- أكثر من 14 فرع في المحافظات، وهي تضم 8 محطات إقليمية للبحوث العلمية، وعدد 5 مراكز وطنية بحثية وتخصصية، تشرف على تنسيق وإجراء البحوث الزراعية في البلاد، مما شكل دفعة قوية للبحوث الزراعية في اليمن.
وخلال تلك الحقبة، كانت الزراعة في اليمن تشكل أولوية سياسية واقتصادية واجتماعية، وأنشأت الحكومة اليمنية عدداً من المؤسسات والهيئات الزراعية، كما أن القيادة السياسية آنذاك أطلقت مشروع “التشجير” العام للمدن اليمنية، والذي خصص تدشينه في الأول من مارس من كل عام، وتم انجاز هذا المشروع خلال مرحلتين فقط (المرحلة الأولى والثانية) حيث تم زراعة 6 ملايين شجرة في كل محافظات اليمن الشمالي (آنذاك) من العام 1975 حتى العام 1977، في حين أن المرحلة الثالثة منه من 1977-1978 والتي كان مخطط لها غرس 3 ملايين شجرة، لم تنفذ، نتيجة اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي.
وما هو هام، أن قطاع الزراعة خلال تلك الحقبة حقق اكتفاء ذاتي من الإنتاج النباتي والحيواني، لدرجة أن اليمن آنذاك -فترة حكم الرئيس ابراهيم الحمدي-، أصدرت عملة معدنية ذهبية في العام 1974، نقشت عليها عبارة: “لزيادة انتاج المحاصيل الغذائية”. كانت الحكومة آنذاك ترى قطاع الزراعة، بأنه القطاع الأساسي الذي لا يتأثر بالتقلبات والعوامل الخارجية كما هو علية الحال في المصادر الاقتصادية الأخرى كالنفط والسياحة وغيرها.
سياسة دعم الزراعة في اليمن
لقد لعبت الدولة (آنذاك) خلال تلك الحقبة، دوراً كبيراً في نمو القطاع الزراعي، وأولت قطاع الزراعة اهتمام كبير، وبحسب التقارير الرسمية، ارتفع إنتاج الفواكه والخضروات نتيجة الحماية والدعم والمساندة الحكومية كسياسة انتهجتها حكومة الجمهورية العربية اليمنية كأولوية، لحماية الإنتاج المحلي، حتى وصلت إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي. وفق ما تشير وثائق تقارير مجلس الوزراء اليمني لعام 1975.
حيث شملت أهداف القطاع الزراعي في الخطة الخمسية الأولى: تحقيق زيادة صافية في الناتج المحلي الإجمالي بمعدل سنوي لا يقل عن 5,5% خلال سنوات الخطة الخمسية الأولى، والسير في طريق الاكتفاء الذاتي من الغذاء، وتأمين احتياجات الصناعات الزراعية المحلية، والحد من العجز المتزايد في ميزان المدفوعات بالنسبة للسلع الزراعية، ودعم صغار المنتجين الزراعيين، والعمل على تحقيق العدالة والاستقرار في نظام الحيازة والعلاقات الزراعية.
وبحسب البيانات، استهدفت الخطة الخمسية الأولى تطوير القطاع الزراعي، باستثمارات بلغت قيمتها 2643,5 مليون ريال، أي بنسبة 14,3% من اجمالي استثمارات الخطة لكل القطاعات. ونفذ منها مبلغ 866 مليون ريال، أي ما نسبته 7,5% من اجمالي الاستثمارات المنفذة خلال الخطة، وترجع أسباب انخفاض نسبة التنفيذ في استثمارات القطاع الزراعي، الى عدة أسباب، أهمها: قلة الكوادر الفنية والإدارية، والصعوبة أو التأخير في الحصول على الأراضي، وقصور التمويل اللازم لبعض المشروعات.
ووفقاً للمصادر، كانت محاصيل الحبوب الغذائية المختلفة، ومحاصيل القطن، هي أبرز السلع الزراعية التي كانت اليمن تصدرها للخارج بنسبة 63%. وفقاً لتقرير رئاسة مجلس الوزراء، لسنة 1975.
وبحسب المعلومات، كانت أبرز المحاصيل الزراعية الرائجة في اليمن، هي: الدخن والذرة والقمح، والمانجو، والموز، والبابايا، والبطيخ، والحمضيات مثل: البرتقال، والليمون، والكمثرى والتفاح، والخوخ، وأصناف العنب اليمني الشهير. الى جانب كافة أنواع الخضروات. كما يزرع اليمن البن الأجود عالمياً، والذي بدأت تجارته حول العالم عن طريق اليمن، وانتشرت في القرن السادس العشر لتبلغ مصر وتركيا وفارس وإندونيسيا وأوروبا والأميركيتين عن طريق ميناء المخا التاريخي الشهير.
نمو الإنتاج الزراعي اليمني 1975 -1981
ويكشف تقرير نمو الإنتاج الزراعي خلال الخطة الخمسية الأولى في اليمن، للفترة من 1975-1981 الصادر عن رئاسة مجلس الوزراء، الى زيادة انتاج البقوليات الجافة بنسبة 10,5%، وزيادة انتاج الخضروات بنسبة 42,6%، وزيادة البطاطا بنسبة 72,4%، وزيادة انتاج البن بنسبة 5,9%، والفواكه بنسبة 34,6%، والتبغ بنسبة 25%.
بعد تلك الفترة؛ وحتى منتصف التسعينات، أشارت تقارير حكومية الى تراجع الاكتفاء الذاتي إلى 15% وتدنت مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي من 20% إلى 13% في العام 1994، وهي ما تزال مستمرة في التدني والإخفاق، لدرجة ان مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة 2001 -2010 ظلت متذبذبة وغير مستقرة ما بين 20% الى 15%.
وبحسب نشرة المستجدات الاقتصادية الصادرة عن وزارة التخطيط والتعاون الدولي، العدد 38، للعام 2018، يساهم قطاع الزراعة بحوالي 20 % من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لليمن، ويشغل قرابة 40.9 % من إجمالي قوة العمل، وينتشر جغرافياً في المناطق الريفية حيث تتركز جيوب الفقر في البلاد. وخلال السنوات الأخيرة أصبح القطاع الزراعي يوفر قرابة 25 % فقط من الاستهلاك الغذائي في اليمن.
اليوم، تبلغ اجمالي المساحة المزروعة في اليمن حوالي 1.084.008 مليون هكتار، وفقاً لبيانات جهاز الإحصاء للعام 2017. أي أن المساحة الزراعية في اليمن منذ فترة السبعينات وحتى اليوم، تقلصت بمقدار 500 ألف هكتار (نصف مليون هكتار) من الأراضي التي توقفت عن الزراعة أو اختفت نتيجة التوسع العمراني، والفيضانات، وتغير المناخ والتصحر واستمرار الصراع المسلح، وغيرها، مما يجسد حجم الكارثة التي تتعلق بمستقبل الأمن الغذائي في اليمن.
فالأهمية النسبية للقطاع الزراعي أخذت اتجاها متناقصاً، بشكل لافت منذ 4 عقود وحتى اليوم. لتتشكل بذلك فجوة كبيرة بين نمو هذا القطاع، وزيادة النمو السكاني، الذي يصنف ضمن أكبر المعدلات في العالم، الأمر الذي ينذر بمخاطر متزايدة على استقرار البلاد نتيجة ازدياد الجوع، وتفشي الفقر، وارتفاع نسبة البطالة.
أسباب تدهور القطاع الزراعي اليمني
تعود أسباب هذا التدهور والتراجع التاريخي للقطاع الزراعي اليمني منذ ذلك الوقت إلى عدة أسباب، أهمها: تزايد معدلات النمو السكاني، واهمال الدولة للقطاع الزراعي، وتصفية بعض مؤسسات دعم الزراعة المملوكة للدولة، وتعرض غالبيتها للفساد الممنهج، وتقليص مهام بعضها، مقابل تزايد الاهمية النسبية للقطاعات الأخرى كالتجارة والنقل والاشغال والخدمات.
كما أن تراجع القطاع الزراعي اليمني، يؤول بسبب انخفاض الإنتاج في القطاع الزراعي نفسه نتيجة الاستخدام المتباين والضعيف لمدخلات الزراعة الحديثة كالأسمدة، والبذور المحسنة، وضعف الاستفادة من الآلات الزراعية الحديثة. بالإضافة الى تزايد هجرة الفلاحين “الشباب” من الريف الى المدن والى خارج البلاد بحثاً عن فرص للعمل.
وفي الوقت الراهن، تظافرت أسباب إضافية ساهمت في تدهور القطاع الزراعي اليمني، وهي: تلاشي جيل الخبرة من قدامى الفلاحين، وقلة الموارد المائية، وزيادة الجفاف، وارتفاع نسبة التصحر، وزيادة تأثير التغيرات المناخية المتسارعة، إلى جانب الصراع المستمر وعدم الاستقرار واستمرار الاضطرابات في البلاد منذ العام 2011، وحتى تفاقم حدة الحرب واستمرار الصراع في اليمن منذ العام 2015. فضلاً عن ضعف مشاريع التنمية الزراعية والريفية في البلاد خلال السنوات الأخيرة. واستمرار زحف العقارات فوق الاراضي الزراعية الخصبة، وتزايد النشاط التجاري على حساب الزراعة.
اخيراً، بمقياس الماضي والحاضر، يتضح أن السياسة الناجحة للدولة اليمنية آنذاك برغم القصور والعثرات، كانت تعتمد على التخطيط والبرمجة ووضع الخطط والسياسات الناجعة، ما جعلها تبدأ بالتنمية الزراعية والاقتصادية كأولوية، الأمر الذي دفع بالنمو الاقتصادي لأعلى مستوياته حتى وصل نسبة 7%، وهو رقم لم يستطع الاقتصاد اليمني الوصول إليه، من بعد ذلك العهد، وحتى هذا اليوم.
* مصادر المعلومات:
– “البرنامج الثلاثي الإنمائي: نقطة الانطلاق”، مجلة (الاقتصاد الآن) صنعاء، العدد الأول، ص20، نشرت في تاريخ 5 مارس 2015.
– العولقي، ناصر، “تجربة التنمية الريفية في الجمهورية العربية اليمنية”، مجلة (دراسات يمنية). مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء/ العدد 11، 1983.
– كتاب التعاون رقم 1 (الأهداف ومراحل التنفيذ). الاتحاد العام لهيئات التطوير التعاوني الأهلي. صادر عن إدارة الثقافة والشئون الإعلامية. الجمهورية العربية اليمنية. يونيو، يوليو 1974-1975.