حلم أخضر (خاص) صنعاء
لا يعرف غالبية اليمنيون، الروائي والمخرج السنيمائي الإيطالي، Pier Paolo Pasolini، بيير باولو بازوليني، وهم لا يعرفون أيضاً أن هذا الأديب والكاتب الراحل، زار اليمن في سبعينيات القرن الماضي، وصّورَ فيلماً وثائقياً عن مباني صنعاء.
وكان أول من أطلق نداءً لمنظمة اليونسكو دعاها لحماية التراث المعماري والطبيعي لمدينة صنعاء القديمة. إليكم تفاصيل هذه القصة “المنسّية” التي تعقبها حلم اخضر من مصادر متعددة.
في العام 1972، وفي مقابلة أجريت معه ونشرت لاحقاً، قال المُخرج الإيطالي بيير بازوليني: «من الناحية المعمارية، اليمن هو أجمل بلد في العالم. وصنعاء هي البندقية على الرمال. وهي مدينة لا يكمن جمالها في آثارها القابلة للتلف، ولكن في تصميمها الذي لا يضاهى».
وفي كتابه الوثائقي: «L’Oriente di Pasolini» أورد بازوليني رحلاته الطويلة إلى البلدان النائية والعتيقة منها اليمن، وقد جذبته مدينة صنعاء القديمة على نحو لم يكن يتخيله. وقد وردت صنعاء في بعض مقابلاته ونصوصه الشعرية والأدبية النادرة، المكتوبة بلغة سرد جمالية، توثق الأنثروبولوجيا وتعارض “التنمية التي تدمر العالم القديم” وفي الكتاب قال بازوليني: «أحد أحلامي أن أشغل نفسي من أجل إنقاذ صنعاء».
سعى هذا المخرج الإيطالي، الحائز على الجائزة الكبرى لمهرجان كان السينمائي، للأفلام الطويلة في العام 1974، لتحقيق حلمه المتمثل في: إنقاذ تراث صنعاء. وفقاً لتقرير منظمة OASIS الإيطالية.
بازوليني يصور فيلم جدران صنعاء
في 18 أكتوبر/تشرين الأول 1970، وفي زيارته لليمن، صّور بازوليني، فيلماً وثائقيًا قصيراً مدته 13 دقيقة، عن مدينة صنعاء القديمة، بهدف إطلاق مناشدة عالمية إلى منظمة اليونسكو لحماية مباني صنعاء القديمة البالغ عددها أكثر من 6,000 ألاف منزل طيني، والحفاظ على قيمتها التاريخية والثقافية والمعمارية الفريدة.
وبحسب مؤسسة دراسات PPP، فانه تم تصوير الفيلم على أنه «فيلم وثائقي على شكل نداء لليونسكو للتدخل لحماية جمال تلك المدينة التي شعر بازوليني أنها البندقية الرملية الحالمة والمثالية».
وطبقاً لأحدى المصادر، صدرَ الفيلم الوثائقي القصير لبازوليني، وعُرض لأول مرة في 20 يونيو/حزيران 1974، في سينما الكابيتول في مدينة ميلانو، وحمل اسم: «جدران صنعاء Le Mura Di Sana’a»، ويتحدث عن الجمال المذهل لمدينة صنعاء القديمة، والوعي المحزن بتدمير العالم القديم الذي أحدثته التنمية. باعتبارها «العالم الحقيقي الوحيد المتبقي» كما وصفها بازوليني.
تشير إحدى الكتابات، لبعض التفاصيل حول انتاج فيلم أسوار صنعاء، بالقول: «في نهاية تصويره فيلم “دي كاميرون” في صنعاء، قرر باسوليني أن يصنع سلسلة من التسجيلات للمركز التاريخي للعاصمة اليمنية وللسكان المحليين. ويتم تحرير تلك اللقطات في هذا الفيلم القصير. والقصد، باعتراف الجميع، هو مناشدة اليونسكو لتولي مسؤولية حماية مدينة صنعاء التي تعود إلى القرون القديمة».
وتذكر أحد المقالات الناقدة: «كانت بعض العبارات بالفيلم مليئة ببعض الغطرسة مثل العبارة التالية: (هذا النداء باسم الشعب اليمني الذي لم يفعل ذلك بعد، ولكن بالتأكيد سيفعل) وكانت الرؤية التي يلتقطها الفيلم واضحة للغاية على التغييرات الحقيقية الحاصلة في المدينة.
كانت الفكرة السينمائية الأنسب هي أخذ سلسلة لقطات لقدامى اليمنيون للتأكيد على غزو التنمية والسلع الاستهلاكية، ان الفيلم الوثائقي مثير للاهتمام، ولكن العمل عليه كان مربكاً».
ويقول بازوليني في حديثة عن فيلمه: «كان يوم الأحد آخر يوم قضيناه في صنعاء، عاصمة شمال اليمن. وكان لدي بعض اللقطات المتبقية من تصوير الفيلم. ونظريًا، لم أمتلك الطاقة لبدء إنتاج هذا الفيلم الوثائقي؛ ولا القوة البدنية أيضًا. وبالرغم من ذلك، كانت لدي طاقة وقوة جسدية كافيتين، أو على الأقل جعلتهما كافيين. لقد كنت شديد الحرص على القيام بشيء ما».
ويضيف: «شعرت أن مشاكل صنعاء هي مشكلتي. إن التشوه، الذي يغزوها مثل الجذام، يصيبني بألم، وغضب، وإحساس بالعجز، وفي نفس الوقت، يمنحني رغبة محمومة في فعل شيء ما، لذلك اضطررت إلى تصويره بشكل قاطع».
وفي المؤتمر الصحفي للجامعة العربية الإيطالية، في أكتوبر/تشرين الأول 1974، في روما، قال بازوليني: «في هذه الأثناء، كل يوم يمر تنهار قطعة من جدران صنعاء، أو تختفي في البناء الحديث».
قدمَ بازوليني في هذا الفيلم لقطات وثائقية نادرة وبالألوان، لمدينة صنعاء التاريخية، إحدى أقدم المدن المأهولة في العالم. وتفاصيل عديدة تظهر طقوس ومباني وأزقة صنعاء، وحركة التنمية، ودخول الاسمنت وتعبيد الطرق بالإسفلت حول المدينة الطينية، وفي الفيديو يظهر تعليق صوتي لبازوليني يدعو فيه اليونسكو لحماية التراث المعماري للمدينة قبل أن تدمرها التنمية.
ويُظهر في الدقائق الأخيرة من هذا الفيلم الوثائقي الجميل، مدينة أورط Orte الإيطالية، في مقاربة لحالة المدن التي عبثت بها التنمية الجامحة في منتصف القرن الـ20، دون مراعاة لفهم التراث وتأصيله أسلوبه بالعصر الحديث بشكل مستدام حديث. وينتهي الفيلم بنداء عابر لليونسكو لحماية التراث المعماري لصنعاء القديمة.
نداء بازوليني لليونسكو لإنقاذ صنعاء
هذا هو النص الحرفي لكلمات النداء الذي وجهه المخرج الإيطالي بازوليني لمنظمة اليونسكو، في فيلمه الوثائقي جدران صنعاء، والمنشور في موقعه الالكتروني، وهو كالتالي:
« نتوجه إلى اليونسكو لطلب مساعدة اليمن على إنقاذ نفسه من الدمار الذي أصابها، والذي بدأ بهدم أسوار صنعاء.
نلجأ إلى اليونسكو لمساعدة اليمن على إدراك هويته، وإدراك البلد الغالي الذي هو عليه .. نلجأ إلى اليونسكو لطلب المساعدة في وقف التكهنات البائسة في بلد لا يدينها أحد.
نتوجه إلى اليونسكو لنجد إمكانية إعطاء هذه الأمة الجديدة، الوعي بأنها خير مشترك للإنسانية، وضرورة حماية نفسها من أجل البقاء كذلك.
نناشد اليونسكو للتدخل، في الوقت المناسب، لإقناع الطبقة الحاكمة الساذجة، بأن ثروة اليمن الوحيدة هي جمالها، والحفاظ على هذا الجمال يعني قبل كل شيء امتلاك مورد اقتصادي لا يكلف شيئًا. لقد حان الوقت على اليمن لعدم ارتكاب الأخطاء التي ارتكبتها الدول الأخرى.
نناشد اليونسكو، باسم الإرادة الحقيقية للشعب اليمني، وإن كانت غير معلنة.
باسم الرجال البسطاء الذين طهرهم الفقر.
باسم نعمة العصور المظلمة.
باسم القوة الثورية الفاضحة للماضي». 1970- 1974
حلم بازوليني يتحقق بصنعاء
من المؤكد، أن مدينة صنعاء القديمة التي أصبحت مأهولة بالسكان بشكل مستمر منذ أكثر من 2500 سنة. والتي تصنف اليوم مدينة متقدمة بيئياً ومعمارياً، كانت قد استحوذت على اهتمام بازوليني بشكل لافت. إذ تشير المصادر أنه كان يقارنها بمدينة البندقية الإيطالية، التي تملكت على جاذبية بازوليني ومشاعره الصادقة.
لكن المحزن، أن المخرج الإيطالي بازوليني، تعرض للقتل، وفارق الحياة في الـ2 من نوفمبر/تشرين الثاني 1975، إثر حادث دهس مروري متعمد في مدينة روما. لكن حلمه لم يمت معه.
بعد ذلك النداء الذي أطلقه المخرج الايطالي لحفظ تراث صنعاء، وبعد مرور عقد من الزمان، تحقق أخيراً حلم بازوليني. استغرق الامر فقط 11 عاماً، دون أن يعلم بازوليني بذلك.
وفي العام 1986، أعلنت منظمة “اليونسكو”، إدراج صنعاء القديمة، في قائمة مواقع التراث العالمي، واختارتها باعتبارها “تحفة عبقرية خلاقة من صُنع الإنسان”. وإحدى القيم الإنسانية الهامة والمشتركة، في تطور الهندسة المعمارية أو التقنية، أو الفنون الأثرية، أو تخطيط المدن، أو تصميم المناظر الطبيعية.
وفي العام 1988، أطلقت حملة دولية لحفظ وترميم تراث مدينة صنعاء القديمة، بمساعدة من (صندوق بازوليني) في روما الذي أنشأته لورا بيتي.
وبحسب المصادر ذهب في نفس العام، وفد إيطالي رسمي، مؤلف من: رومانو برودي، من قبل وزارة التراث الثقافي، لورا بيتي وإنزو سيسيليانو، إلى العاصمة صنعاء، حيث كانت إيطاليا هي التي أرادت بدء مشروع تجريبي لترميم مدينة صنعاء، لمدة عامين من العمل، وبميزانية تبلغ نحو 15 مليار ليرة (العملة الوطنية الإيطالية آنذاك).
شاهد الفيلم الوثائقي: أسوار صنعاء – بيير باسوليني 1971