حلم أخضر – محمد الحكيمي (خاص)
في العام 1972، قال الأديب والمخرج السنيمائي الإيطالي، بيير باولو بازوليني، أنه «من الناحية المعمارية، اليمن هو أجمل بلد في العالم. وصنعاء هي البندقية على الرمال».
لعل كلمات بازوليني، هي أفضل وصف يمكن ان تجسده عبارة عن الفن المعماري اليمني القديم في العصر الحديث، وتحديداً عمارة مدينة سام، أو التي عرفها الجميع باسم مدينة صنعاء القديمة.
ولكونها استثنائية، أدرجت منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلم “اليونسكو” مدينة صنعاء القديمة في العام 1986، ضمن قائمة مواقع التراث العالمي.
وقد اختارتها باعتبارها تمثل “تحفة عبقرية خلاقة من صُنع الإنسان”، وإحدى القيم الإنسانية الهامة والمشتركة، سواء في تطور الهندسة المعمارية أو التقنية، أو التخطيط، أو تصميم المناظر الطبيعية.
«شُيّدت منازل صنعاء القديمة قبل قرون طويلة، وفق أسس علمية في التصميم البيئي، بحيث تقاوم تأثيرات المناخ، والعزل الحراري، وعوامل التعرية».
طبقا لموقع مركز التراث العالمي التابع لليونسكو، بنيت مدينة صنعاء في وادِ جبلي يرتفع إلى 2,200 متر عن سطح البحر. وأصبحت المدينة مأهولة بالسكان منذ أكثر من 2500 سنة.
تحولت المدينة في القرنين السابع والثامن الى مركز هام لنشر الإسلام، فحافظت على تراث ديني وسياسي يتجلى في 106 من المساجد، و21 حماماً، وحوالي 6,500 منزل طيني داخل مدينة دمجت الطبيعة بالبيئة العمرانية.
وهي تعود الى ما قبل القرن الحادي عشر. أما المساكن البرجية المتعددة الطبقات ومنازل الآجر القديمة فهي تزيد الموقع جمالاً.
العمارة اليمنية متقدمة بيئياً
هندسياً، تعد العمارة اليمنية بمدينة صنعاء القديمة جزءً أصيلاً من التراث اليمني، والتراث العالمي الإنساني، الذي تم الحفاظ عليه.
تميزت صنعاء القديمة، بنمط عمراني متفرد، تمخض عنه نسيج عضوي لمدينة نتج عنها تراث عمراني، كان له القدرة على تلبية كافة متطلبات واحتياجات قاطنيها بما في ذلك المتطلبات البيئية.
وتفيد دراسة علمية نشرتها مجلة جامعة العلوم والتكنولوجيا بصنعاء، في اغسطس/آب 2010، أن طريقة بناء صنعاء القديمة أوجدت معالجات معمارية وتخطيطية أدت إلى جعل المدينة تبدو مثل كائن حي، يأخذ من بيئته ويعطيها دون ضرر أو ضرار.
وقد تشكلت مجموعاتها السكنية من ساحات وبساتين ومقاشم وشوارع وحارات بانسجام، وتجانست فيما بينها.
وكان للمساجد الدور المسيّطر عليها والمنظم لها ثقافياً واجتماعياً، وحتى على المستوى البيئي. بما في ذلك الاستهلاك الجيد للمياه وإعادة تدويرها.
منازل جاذبة لحركة الشمس والهواء
وفقاً لـ الدراسة التي أعدها الباحثان: الدكتور عبد المنطلب علي، أستاذ العمارة والتحكم البيئي بجامعة آسيوط، والباحثة سميرة الشاوش، المدرس المساعد بكلية الهندسة بجامعة صنعاء؛ فقد اعتمد قدامى المعماريين اليمنيين في تشكيل وبناء مدينة صنعاء القديمة، على أسس ومبادئ بيئية وظيفية وتقنيات محددة تراعي البيئة على نحو مستدام ومدهش، أهمها التوجه المعماري للانفتاح إلى الخارج بدلا عن الداخل.
تقول الدراسة:«شيدت منازل صنعاء القديمة قبل قرون، وفق أسس علمية في التصميم البيئي، بحيث تقاوم تأثيرات المناخ والعزل الحراري وعوامل التعرية».
وتضيف الدراسة: «شيدت بيوت صنعاء بحيث تؤمن المتانة والثبات للمباني، إذ تكمن الميزة الفريدة في تصميم المنازل بكونها صُممت كي تتبع حركة الشمس والهواء للحصول على اضاءة جيدة وتهوية طبيعية».
وبحسب الدراسة، اعتمد المعماريين اليمنيين عند بناء منازل صنعاء على أسلوب البناء العمودي بارتفاع من 4-6 طوابق مدمجة بالشكل المكعب.
لعل الأمر المدهش أن معظم منازل صنعاء القديمة تم تشييدها باتجاه الجنوب، من أجل جذب أكبر كمية ممكنة من الاشعاع الشمسي خلال فترة الشتاء.
صنعاء: أقدم نموذج للعمارة الخضراء
قبل أكثر من 1000 سنة، سبقت مدينة صنعاء القديمة، معظم مدن العالم في تقديم نموذج العمارة الخضراء في مبانيها البالغ عددها 6,500 ألاف منزل.
إذ شيدت بمواد طبيعية محلية من الحجر والطين والطوب والخشب ومادة النورة، وهي مواد طبيعية غير ملوثة للبيئة، حتى في حال هدم المنزل، فلن تكون مضرة بالبيئة أو الصحة.
وبحسب دراسة (عبدالمنطلب، سميرة، 2010) يلاحظ أن تخطيط المدينة وتصميم مختلف عناصرها، قد اتبع العديد من التطبيقات البيئية الملائمة.
فقد جعل التخطيط والنسيج العمراني للمدينة القديمة معظم البيوت والقصور مطلة من كل الاتجاهات على بساتين منتشرة في معظم الإحياء السكنية، والتي تتميز باحتوائها على الأشجار المحلية والمزروعات التي تجعل منها حدائق خضراء طوال السنة.
ركزت طريقة التشييد على إيجاد فضاءات ومساحات خضراء واسعة في أطراف حارات المدينة ووسطها. -توجد بصنعاء القديمة قرابة 69 حارة-، وهو ما تفقتده أحياء العاصمة صنعاء اليوم.
هذه المساحات الحضراء بالمدينة تقوم بوظيفة هامة، إذ تبين أنها تعمل كمرشحات طبيعية لتنقية الهواء من الأتربة والغبار.
كما تساعد على رفع نسبة الرطوبة وإيجاد الظلال والحد من الإبهار. ويلاحظ أن وجود المسطحات الخضراء من أهم مميزات تخطيط مدينة صنعاء القديمة من أجل دمج الطبيعة الخضراء بالبيئة العمرانية.
وقد أخذ تخطيط المدينة الشكل التلقائي العضوي، والذي يتميز بوحدة مبانيها العالية وتجانس أشكال واجهاتها.
كما أن تعرج الشوارع وعدم استقامتها واختلاف قطاعاتها حتى على مستوى الشارع الواحد، قد عمل على إعاقة حركة الرياح الباردة، والحد من سرعتها وتأثيرها.
كل ذلك التخطيط، كان بشكل مدزوس حتى لا تعمل الشوارع كأنفاق للرياح، مع توفر أكبر قدر من الظلال للمشاة خلال فترة الصيف.
المساحات الخضراء بصنعاء القديمة
تبيّن دراسة (عبدالمنطلب، وسميرة، 2010)، أن صنعاء القديمة محاطة بمساحات وفضاءات خضراء من بساتين ومقاشم وحدائق على منوال فريد ومتقدم للغاية.
وتشير أبحاث المسح الميداني أن المساحات الخضراء في صنعاء القديمة تشكل نسبة خمُس 1/5 اجمالي مساحة المدينة القديمة. إذ يوجد لكل حي مساحة خضراء واسعة تخصها.
لهذه المساحات الخضراء في صنعاء القديمة وظائف بيئية واقتصادية، فهي تعمل على تنقية الهواء، وتخفيف درجة الحرارة، وتبريد الطقس، ورفع نسبة الرطوبة، وامتصاص اشعة الشمس المباشرة.
كما أن هذه البساتين والمقاشم والحدائق تعد كحقول لزراعة كافة أنواع الخضروات التي يحتاجها سكان كل حي.
وتفيد العديد من الوثائق التاريخية أن سكان الحارات في صنعاء القديمة، كانوا يزرعون الخضروات التي يحتاجونها للغذاء من خلال هذه البساتين او المقاشم.
وقد اعتمد بناء صنعاء، على إيجاد هذه المساحات الخضراء في أطراف الحارات ووسطها، كما جاءت الساحات والطرقات والأزقة التي أوجبتها الضرورة والحاجة للحركة والربط من ناحية، والإضاءة والتهوية من ناحية أخرى.
وطبقاً للمصادر، تعد مقاشم صنعاء عبارة عن متنفس ومصدر لزراعة الخضروات البسيطة التي يحتاجها سكان كل حي في المدينة.
ويوجد في كل حارة بستان أو مقشامة، ويبلغ عدد البساتين الموجودة في مدينة صنعاء القديمة قرابة 40 بستان ومقشامة.
وبحسب تلك الدراسة، كانت هذه البساتين تؤمن الاكتفاء او الاحتياج الذاتي من الخضروات التي يحتاجها كل سكان الحي.
صنعاء مدينة تراعي البيئة
تشير دراسة هندسية نشرتها مجلة جامعة دمشق، أعدها الأستاذ الدكتور محمد العلفي وآخرون، أن المناطق السكنية في صنعاء القديمة استمدت خصائصها من طابع المكان والأرض التي توجد فيها.
وأن ذلك كان لغرض الاستفادة من المواد الطبيعية المتاحة بالموقع، بطريقة تستجيب لمحددات الموقع وظروفه البيئية.
في حين تشير دراسة (عبدالمنطلب، وسميرة 2010) ان مدينة صنعاء القديمة، تعاملت بواسطة تخطيط وتصميم عناصرها المختلفة مع مصادر التلوث الموجودة بها بصور مختلفة.
حيث تم فصل المباني السكنية عن أماكن تجمع الناس والحيوانات في الأسواق والساحات، وبالتالي تلافياً لما قد ينتج عن هذه التجمعات من ملوثات في الأرض والهواء.
وما قد يصدر عنها من ضوضاء. لتبقى المباني السكنية بعيداً عن ذلك كله، حيث نجد أن طرقاتها ضيقه ولا تسمح بالتجمع فيها.
كما اعتمدت صنعاء القديمة، على تقنية رائعة للتصريف البيئي الملائم للمياه الناتجة عن المباني السكنية، والمباني العامة، ومياه الصرف الصحي، وكذلك المياه الناتجة عن المساجد (مياه الوضوء).
كل هذه المياه تذهب جميعها في نظام تصريف لري المساحات الخضراء المنتشرة في الحارات. حيث تم مراعاة تصريف المياه ليتم الاستفادة منها بعدم إهدارها حتى بعد استخدامها.
وتفيد الدراسة، ان الوضع الراهن لملامح الفكر البيئي الموجود بمدينة صنعاء القديمة، يعكس قدرة التراث الذي عمل ولا زال يعمل على تحقيق كافة متطلبات ساكنيها.
صنعاء القديمة أكثر تقدماً من الحديثة
ما زالت مدينة صنعاء القديمة تحوي العديد من الملامح والفكر البيئي بمفردات تخطيطية وتصميمية يمكن دراستها وتطويرها وتطبيقها على العمارة الحديثة.
وقد سبقت -صنعاء القديمة- بذلك الفكر، مدن العالم عبر تحقيقها لتلك التطبيقات البيئية والذي ما يعرف في وقتنا الحالي بمبادئ العمارة الخضراء.
لكن، من الواضح جداً، أن معظم المهندسين المعماريين في اليمن اليوم، فشلوا في تأصيل الأساليب المعمارية التي تتميز بها العمارة اليمنية القديمة، وتحديداً مدينة صنعاء القديمة، ومدينة شبام حضرموت.
فعند تخطيط العمارة الحديثة، نلاحظ ان المعماريين اليوم لم يتمكنوا من الاستفادة من توظيف التراث المعماري ومن الوظائف البيئية الهندسية للمباني أو تطوير تقنياتها.
فبمجرد النظر لمدينتي صنعاء القديمة وصنعاء الحديثة، تجد أن الأخيرة كتلة مشوهة، وبلا هوية تراث معماري. وبلا مساحات خضراء. وبدون فكر بيئي يراعي متطلبات السكان بشكل مستدام.
وبحسب دراسة (العلفي وآخرون، 2013) فإن غالبية المساكن اليمنية المعاصرة لم تسهم تماماً في الرد على احتياجات السكان الحالية.
يعزى ذلك بسبب أن معظم التصاميم الحديثة جاءت بصورة غير متناسبة مع الجانب الثقافي المتمثل بالسلوك الإنساني للمجتمع اليمني وعاداته وتقاليده.
ونظراً إلى تجاهل معظم المعماريين اليمنيين لتلك الأمور عند الدراسة والتقييم، ظهرت مشكلات عديدة: بيئية، اقتصادية، واجتماعية، وهي مرتبطة بالناحيتين المعمارية والعمرانية.
فمعظم المباني السكنية الحديثة المشيدة خلال العقود الأخيرة، استلهمت تصاميم هندسية تحاكي نمط البناء في دول المنطقة والجوار كالبناء الأردني والخليجي.
ولعل التصاميم الحديثة لم تراعي مسألة التوسع والزيادة السكانية، فبدلاً من الاخذ باسلوب البناء العمودي لتقليل مساحة الارض، يلجئ مهندسو العقارات وشركات المقاولات للتوسع على حساب الاراضي الزراعية الخصبة.
فضلاً عن أنهم لا يراعون أسس علم “التصميم البيئي”. ويغفلون مسالة الحفاظ على هوية العمارة اليمنية، أو تجديدها بأسلوب عصري.
لقد تخلى المعماريين المحليين عن تأصيل التراث المعماري اليمني الفريد والزاخر. وهذا ما يفسر بالضبط سبب تردي جودة الحياة البيئية والعمرانية في كافة مدن البلاد.
حلول يجب مراعاتها لتأصيل تراث العمارة اليمنية:
تحوي مدينة صنعاء القديمة، على العديد من ملامح الفكر البيئي بمفردات تخطيطية وتصميمية يمكن دراستها وتطويرها وتطبيقها بالعمارة الحديثة.
وقد قدمت نموذجاً بذلك، عبر تحقيقها لتلك التطبيقات وفق مبادئ العمارة الخضراء. ويضع الدكتور عبد المنطلب علي، والاستاذة سميرة الشاوش، جملة من التوصيات التي يمكن أخذها للحفاظ على أصالة العمارة اليمنية، وفق التالي:
1. دارسة وفهم التطبيقات البيئية العمرانية التراثية بمدينة صنعاء القديمة ومحاولة تطويرها وتطبيقها بصورة تتماشى مع متطلبات العصر الحديث.
2. الاحتفاظ بروح العمارة القديمة والتراث العمراني البيئي الغني والعمل على تطوير تطبيقاتها وتحديث شكلها مع الاستفادة من التقنية الحديثة بما يتلاءم مع البيئة.
3. استخدام فكرة النسيج المتضام بتجنب التخطيط الشبكي المستمر مع فصل المناطق السكنية عن مناطق الحركة المرورية والتجمعات والضوضاء والتلوث.
4. مراعاة التوجيه الملائم والمفضل بالمدينة عند تصميم المباني وخصوصاً السكنية منها.
5. استخدام مواد البناء المحلية وعمل الدراسات اللازمة للتعرف على خواصها الفيزيائية والكيميائية لتوظيفها بشكل أفضل.
6. الاهتمام بالمسطحات الخضراء والمزروعات وعناصر المياه لرفع معدلات الرطوبة النسبية المتدنية بالمدينة وذلك بالفراغات الداخلية وكذلك الفراغات الخارجية.
7. عدم إغفال الدور الحيوي البيئي للمسجد وتطبيق ذلك بعمارة المساجد الحديثة.
8. الابتعاد عن التقليد الأعمى دون فهم، في تقليد العمارة الغربية دون دراسة جدية لواقع العمارة المحلية ومحاولة تطويرها لإنتاج عمران حديث أصيل الهوية يراعي البيئة ويحقق متطلبات التطور الحالي في مجال العمارة والبناء.
9. مراعاة أن يتضمن التخطيط والتصميم المستقبلي لامتدادات المدينة الاهتمام بمراعاة الجوانب المناخية والبيئية التي تتميز بها المدينة وإمكانية تطوير شبكات البنية التحتية للإمداد بالمياه أو تصريفها.
10. يمكن تطبيق العديد من التوصيات السابقة في مدن يمنية أخرى غير مدينة صنعاء إذا ما وجد ذلك ملائماً.
* المراجع والمصادر:
– عبد المنطلب محمد علي، سميرة صالح الشاوش، دراسة بحثية: «التراث العمراني البيئي لمدينة صنعاء القديمة (بين الماضي والحاضر)». مجلة العلوم والتكنولوجيا، المجلد 15، العدد 2. جامعة العلوم والتكنولوجيا، صنعاء/ 2010.
– محمد محمد العلفي، حنان نزار غازي، ندى القصيباتي، دراسة «الفكر التصميمي لعمارة السكن في صنعاء بين التقليد والمعاصرة»، مجلة جامعة دمشق للعلوم الهندسية، المجلد 29، العدد 1، سوريا، 2013.
– عدة مولفون، كتاب «أسس التصميم المعماري والتخطيط الحضري في العصور الإسلامية المختلفة»، دراسة تحليلية على العاصمة صنعاء، منظمة العواصم والمدن العربية، صنعاء/ اليمن، 2005.
– مدينة صنعاء القديمة، مركز التراث العالمي، منظمة اليونسكو. الموقع الالكتروني.